وقد حث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمته على التوبة، فقال صلى الله عليه وسلـم: (يا أيها الناس، توبوا إلى الله وإستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة) (رواه مسلم). وأخبر عن شدة فرح الله تعالى بتوبة عبده، فقال صلى الله عليه وسلم: (لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة) (متفق عليه) .
وأخبرنا صلى الله عليه وسلم عن سعة توبة الله تعالى فقالإن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهاء، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسي الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها) (رواه مسلم) .
والآيات والأحاديث في التوبة كثيرة جداً حسب اللبيب منها ما ينير بصيرته، ويستنهض همته لإغتنام عمره بالتوبة النصوح .
والتوبة أيها المسلمون هي ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة . والتوبة النصوح التي أمرنا الله بها هي توثيق العزم على ألا يعود بمثله، وهي التوبة الصادقة الناصحة .
والتوبة واجبة من كل ذنب.
ولها شروط ثلاثة :-
الأول: أن يقلع عن المعصية .
الثاني: أن يندم على فعلها .
الثالث: أن يعزم على أن لا يعود إليها أبداً .
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فلها شرط رابع أيضاً وهو: أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه ردّه إليه، وإن كان حد قذف ونحوه مكّنه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة إستحله منها، مالم يترتب على الإستحلال نفسه مفسدة أخرى، فإن يُكتفى بتوبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب في مواضيع غيبته بضد ما ذكره به ويستغفر له .
وإن كان أخطأ على أحد بأي نوع من الأخطاء إسترضاه من ذلك الخطأ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان لأخيه عنده مظلمة من مالٍ أو عرض فلتحلله اليوم من قبل ألا يكون دينار ولا درهم الا الحسنات والسيئات) (رواه البخاري
أيها الأحبه : إن من رحمة الله بعباده أن شرع لهم التوبة ورغّبهم فيها خصوصاً بعد وقوعهم في المحاصي، يقول صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ثم جاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون فيغفر لهم) (رواه مسلم) .
قال إبن رجب ـ رحمه الله ـ: وفي إيقاع الخلق في الذنوب أحياناً فائدتان عظيمتان:
أحداهما: إعتراف المذنبين بذنوبهم وتقصيرهم في حق مولاهم وتنكيس رؤوس عجبهم، وهذا أحب إلى الله من كثير من الطاعات، فإن دوام الطاعات قد توجب لصاحبها العُجب .
ثانيها: حصول المغفرة والعفو من الله لعبده، فإن الله يحب أن يعفو ويغفر، ومن أسمائه الغفار والعفو والتواب، فلو عصم الخلق فلمن كان العفو والمغفرة .
سئل علي رضي الله عنه عن العبد يذنب؟ فقال: يستغفر الله ويتوب، قيل: فإن عاد، قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: فإن عاد قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: حتى متى؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المحسور .
وقيل للحسن رحمه الله: ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود، ثم يستغفر ثم يعود، فقال: ودّ الشيطان لو ظفر منكم بهذا، فلا تملوا من الإستغفار . فما أحوجنا إلى التوبة النصوح، وما أحوجنا إلى وقفة مع أنفسنا لنحاسبها قبل أن تحاسب .
إن كثيراً من الناس قد يغضب إذا قيل له: تب إلى الله تعالى، ويعتقد أن التوبة لا تكون إلا من الكفر، أو الكبائر، وهذا إعتقاد خاطىء، والمؤمن بحاجة إلى التوبة في جميع أحيانه، فالله تعالى نادى المؤمنين بقوله : (يايها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً) (التحريم:8) .
والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن نفسه بأنه يتوب في اليوم مائة مرة ـ كما تقدم ـ وهو الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما ظنكم بأنفسكم أيها المؤمنون، فالله الله بالتوبة النصوح، ولا تأنف أخي المؤمن ولا تضجر ممن أمرك أو ذكرك بالتوبة، وإعلم أنها قوام حياتك وعصب دينك، فلا فلاح إلا بملازمة التوبة، ولا هداية إلا بالمداومة عليها، فالعابد، والزاهد، والتاجر، وطالب العلم، والعالم، والمتعلم، الكل منهم لا غنى له عن التوبة، لتستقيم أموره وتكون خالصة لوجه الله تعالى موافقة لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
فأوصيكم ونفسي أيها الأخوة بالتوبة النصوح عاجلاً قبل فوات الأوان، توبوا عن التقصير في حقوق الله تعالى وحقوق عباده، وتحللوا من مظالم العباد قبل أن يحول الموت بينكم وبينها، فمن كان عنده مظلمة لأحد فليتحلل منه قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، أدّوا الحقوق إلى أهلها قبل أن يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. وإعلموا أن الد نيا دار ممر وإمتحان، وأن الآخرة هي دار القرار .
ثم إعلموا أن لصحة التوبة علامات يحسن التنبيه عليها تبشيراً لمن آنس منها شيئاً، وإنذاراً لمن لم يجد ريحها، ومن تلك العلامات
:-
أن تكون حال المؤمن بعد التوبة خيراً وأحسن من حاله قبل التوبة، ويجد لذلك راحة وإطمئناناً .
أن يكون المؤمن دائم الخوف من الله تعالى خصوصاً في حال الرخاء .
وفي الختام أيها الأخوة إليكم شيئاً من فوائد التوبة : أولا: أن التوبة من كمال الإيمان وحسن الإسلام .
ثانياً: أن التوبة سبب من أسباب حب الله تعالى للعبد ورضاه عنه، لأن الله يحب التوابين.
ثالثاً: سعة رحمة الله تعالى للتائبين وشمول مغفرته سبحانه لكل ذنب تاب منه العبد حتى لو كان شركاً .
رابعاً: أن التائب يحوز على رضوان الله تعالى وإحسانه .
خامساً: أن الله تعالى يُقبل على العبد التائب أضعاف إقبال عبده عليه بالطاعة .
سادساً: أن التوبة سبب في ذهاب الضيق والهموم .
سابعاً: سعة مجال التوبة حيث إن بابها مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها أو يغرغر العبد .
ثامناً: أن التوبة جلاء للقلوب من ظلمة المعاصي .
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من التوابين ومن المتطهرين، وأن يغفر لنا خطايانا ووالدينا وجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين