الدليل على النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة والالتفات فيها
حكم تغميض العينين في الصلاة
أدلة ومناقشة وترجيح مذاهب العلماء في موضع نظر المصلي
أقوال العلماء
الخلاصة
بعد أن أجمع أهل العلم على أنه لا يحل للمصلي أن يشخص ببصره إلى السماء اختلفوا إلى أين ينظر المصلي فذهبوا في ذلك مذاهب هي:
1. ينظر إلى موضع سجوده ـ وهذا مذهب الجمهور: الشافعي، وأحمد، والثوري، وأبي حنيفة.
2. ينظر باتجاه القبلة ـ وهذا مذهب مالك.
3. ينظر عند القيام إلى موضع سجوده، وعند الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى أنفه. وفي قعوده إلى حِجْره، وهذا مذهب شُرَيْك القاضي ومن وافقه.
الدليل على النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة والالتفات فيها
1. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟" فاشتد قوله في ذلك حتى قال: "لَيَنْتَهُنَّ عن ذلك، أو لتخطف أبصارهم"1.
2. عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد"2.
3. وعن جابر بن سَمُرة رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فرأى فيه ناساً رافعين أيديهم إلى السماء، فقال: "لينتهين رجال يشخصون بأبصارهم إلى السماء في الصلاة، أو لا ترجع إليهم أبصارهم".
4. وعن أحمد3: (لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه عنه انصرف)4 وروي عنه كذلك: (فإذا صليتم فلا تلتفتوا).
هذه الأحاديث فيها نهي وزجر للمصلي عن أمرين هما:
1. رفع البصر إلى السماء في الصلاة، لا عند الدعاء فيها ولا غير ذلك.
2. وعن الالتفات المخل والاستدارة التامة بالبدن، أما الالتفات الخفيف يمنة ويسرى سيما لصالح الصلاة، أو لضرورة فهو مرخص فيه.
أقوال العلماء في ذلك
قال النووي رحمه الله: (أجمع العلماء على استحباب الخشوع والخضوع في الصلاة، وغض البصر عما يلهي، وكراهة الالتفات في الصلاة وتقريب نظره وقصره على ما بين يديه)5.
وقال الحافظ ابن حجر: (قال ابن بَطـَّال6: أجمعوا على كراهة رفع البصر في الصلاة، واختلفوا فيه خارج الصلاة في الدعاء: فكرهه شُرَيْح وطائفة، وأجازه الأكثرون لأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة.
قال عياض: رفع البصر إلى السماء في الصلاة فيه نوع إعراض عن القبلة، وخروج عن هيئة الصلاة.
إلى أن قال عن الالتفات في الصلاة: لم يبين المؤلف7 حكمه، لكن الحديث الذي "أورده دل على الكراهة، وهو إجماع، لكن الجمهور على أنها للتنزيه، وقال المتولي: يحرم إلا للضرورة، وهو قول أهل الظاهر، وورد في كراهية الالتفات صريحاً على غير شرطه8 عدة أحاديث إلى أن قال:
والمراد بالالتفات المذكور ما لم يستدبر القبلة بصدره، أو عنقه كله. وسبب كراهية الالتفات يحتمل أن يكون لنقص الخشوع ولترك استقبال القبلة ببعض البدن9).
وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله عن رفع الرأس إلى السماء في الصلاة: (وهذا أيضاً وعيد بإعماء من رفع بصره إلى السماء في الصلاة، ولا فرق بين أن يكون عند الدعاء أو عند غيره، لأن الوعيد إنما تعلق به من حيث أنه إذا رفع بصره إلى السماء. أعرض عن القبلة، وخرج عن سمتها10، وعن هيئة الصلاة، وحكى الطبري كراهة رفع البصر في الدعاء إلى السماء في غير الصلاة، وحكى عن شُرَيْح أنه قال لمن رآه يفعله: أكفف يديك، وأخفض بصرك، فإنك لن تراه، ولن تناله. وأجازها الأكثر لأن السماء قبلة الدعاء كما ان الكعبة قبلة الصلاة وقد رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ويديه إلى السماء عند الدعاء فلا ينكر)11.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله معلقاً على قول ابن حجر السابق في الفتح: (أن السماء قبلة الدعاء): (هذا فيه نظر، والصواب أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة لوجوه:
أولها: أن هذا القول لا دليل عليه من الكتاب والسنة ولا يعرف عن سلف الأمة.
الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستقبل القبلة في دعائه كما ثبت ذلك عنه في مواطن كثيرة.
الثالث: أن قبلة الشيء هي ما يقابله لا ما يرفع إليه بصره كما أوضح ذلك شارح الطحاوية (ص229 بتحقيق أحمد محمد شاكر)12 ).
الذي يترجح لدي من الأدلة ومن أقوال أهل العلم السابقة أن المصلي لا يشخص ببصره إلى السماء في الصلاة وإنما ينظر إلى موضع سجوده والله أعلم.
حكم تغميض العينين في الصلاة
ذهب أهل العلم في ذلك مذهبين هما:
1. يكره تغميض العينين في الصلاة.
2. يجوز تغميضهما في الفرض والنفل.
قال النووي: (قال العبدري: يكره أن يغمض المصلي عينيه في الصلاة. قال: قال الطحاوي: وهو مكروه عند أصحابنا13 أيضاً. وهو قول الثوري. وقال مالك: لابأس به في الفريضة والنافلة.
دليلنا أن الثوري قال: إن اليهود تفعله14، قال الطحاوي: ولأنه يكره تغميض العين فكذا تغميض العينين.
هذا ما ذكره العبدري. ولم أر هذا الذي ذكره من الكراهة لأحد من أصحابنا15. والمختار أنه لايكره إذا لم يحقق ضرراً لأنه يجمع الخشوع وحضور القلب ويمنع من إرسال النظر، وتفريق الذهن. قال البيهقي: وقد روينا عن مجاهد وقتادة أنهما كرها تغميض العينين في الصلاة. وفيه حديث قال: وليس بشيء)16.
الراجح والله أعلم أنه لا يجوز تغميض العينين في الصلاة لأنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعله، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" أما الخشوع في الصلاة فلا علاقة له بتغميض العينين.
أدلة ومناقشة وترجيح مذاهب العلماء في موضع نظر المصلي
استدل الجمهور بعدد من الأحاديث والآثار إلى ما ذهبوا إليه، منها:
1. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة لم ينظر إلا إلى موضع سجوده)17.
2. رُوِي مرسلاً عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نزل قوله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ"18 طأطأ رأسه ونكس في الأرض19.
3. وروى البيهقي بسنده إلى أبي قِلاية الجرمي يقول: (حدثني عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة رسول الله في قيامه، وركوعه، وسجوده بنحو من صلاة أمير المؤمنين يعني عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال سليمان: فرَمَقْتُ عمرَ في صلاته فكان بصره إلى موضع سجوده)20.
4. وقال أنس بن مالك قلت: يا رسول الله أين أضع بصري في الصلاة؟ قال: "عند موضع سجودك يا أنس". قال: قلت: يا رسول الله! هذا شديد لا أستطيع هذا. قال: "ففي المكتوبة إذاً"21.
5. وعن الحسن عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس اجعل بصرك حيث تسجد"22.
هذه الآثار كلها فيها مقال لأهل العلم.
قال النووي في المجموع عن حديث ابن عباس السابق: (حديث ابن عباس هذا غريب لا أعرفه. وروى البيهقي أحاديث من رواية أنس وغيره بمعناها وكلها ضعيفة)23.
واستدل مالك ومن وافقه على أن المصلي ينظر إلى جهة القبلة ـ أمامه بقوله تعالى: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ"24.
أما ما ذهب إليه شُرَيك ومن وافقه فتحكم لا دليل عليه.
أقوال العلماء
-
قال الإمام الشيرازي رحمه الله: (ويستحب أن ينظر إلى موضع سجوده)25.
-
وقال النووي رحمه الله في شرح ما قاله الشيرازي: (جزم المصنف26 وسائر العراقيين27 وجماعة من غيرهم أنه يجعل نظره إلى موضع سجوده، في قيامه وقعوده
الثاني: وبه جزم البغوي والمتولي: يكون نظره في القيام إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى ظهر قدميه، وفي السجود إلى أنفه، وفي القعود إلى حِجْره، لأن امتداد البصر يلهي ويمنع كمال الخشوع)28.
-
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وأخرج ابن أبي شيبة من رواية هشام بن حسان عن محمد بن سيرين: كانوا يلتفتون في صلاتهم حتى نزلت: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ"29 فأقبلوا على صلاتهم، ونظروا أمامهم، وكانوا يستحبون ألا يجاوز بصر أحدهم موضع سجوده، ووصله الحاكم بذكر أبي هريرة فيه، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال في آخره: فطأطأ رأسه)30.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، والحسن بن حي: يستحب أن يكون نظره إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى أنفه، وفي القعود إلى حِجْره)31.
الخلاصة
الذي يترجح لدي من أقوال ومذاهب أهل العلم السابقة هو: ينظر المصلي إلى موضع سجوده في صلاته كلها، لأن هذا أدعى للخشوع وعدم التشاغل عن الصلاة على الرغم من ضعف كل الأحاديث والآثار الواردة في نظر المصلي إلى موضع سجوده.
والله أعلم بالصواب وله المرجع والمآب وصلى الله وسلم وبارك على محمد والآل والأصحاب والتابعين لهم إلى يوم التناد.
وكتبه
الأمين الحاج محمد أحمد
رئيس الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان
لثنتي عشر ليلة خلت من شهر رجب 1445هـ
بارك الله فيك وجعله في ميزان حسناتك
اسعدكن المولى