" لا تحزن .. إن الله معنا "
هل كان رسول الله صلى الله عليه و سلم مضطراً للتعرض لكل تلك المخاطر ؟ ألم يكن ربه ـ سبحانه ـ قادراً على أن ينقله إلى المدينة نقلاً مباشراً كما حدث في رحلة الإسراء و المعراج ؟ لِمَ كانت الهجرة إذن ، و ما الهدف و الرسالة التي تبعثها إلى أمة المسلمين سَلَفِهم و خَلَفِهم ؟
ندرك تلك الرسالة و هذا الهدف من المواقف المختلفة في الهجرة :
عندما تتبعت قريش رسول الله و صاحبه أبا بكر حَتّى انْتَهَوْا إلَى بَابِ الْغَار فَوَقَفُوا عَلَيْهِ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ " يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ أَنّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا . فَقَالَ " مَا ظَنّك بِاثْنَيْنِ اللّهُ ثَالِثُهُمَا ؟ لا تَحْزَنْ إنّ اللّهَ مَعَنَا" .
لو تأملنا هذا الموقف لأدركنا معنىً سامياً ينبع من أصل عقيدة المسلم و إيمانه بالله .. الواحد .. القادر .. المالك .. الذي يقول للشئ كن فيكون … ذلك المعنى هو الثقة بالله و حسن الظن به و التوكل عليه سبحانه … مع العمل و الأخذ بأسباب النجاح .
يقول سبحانه و تعالى في حديثٍ قدسي : " أنا عند ظن عبدي بي ، و أنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، و إن ذكرني في ملئٍ ذكرته في ملئٍ خيرٍ منهم ، و إن تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ، و إن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً ، و إن أتاني يمشي أتيته هرولة " .
ماذا كانت نتيجة هذا التوكل : لقد أعمى الله عنه عيون المشركين عند خروجه من بينهم ، بل و نثر على رؤسهم التراب .. و حجب أبصارهم عنه عند الغار .. و الحمامة و العنكبوت .. و قصة سراقة بن مالك .. و …. { و من يتوكل على الله فهو حسبه * إن الله بالغ أمره }
——————————————————————————–
المعنى :
يقال " تَوَكَّلَ عَلَى اللَّه "ِ : أي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَوَثِقَ بِهِ , وَاتَّكَلَ عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِ كُله .
وَفِي الشَّرِيعَةِ يُطْلَقُ التَّوَكُّلُ عَلَى الثِّقَةِ بِاَللَّهِ وَاْلإِيقَانِ بِأَنَّ قَضَاءَهُ مَاضٍ , وَالاتِّبَاعِ لِسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّعْيِ فِيمَا لا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الأَسْبَابِ .
التَّوَكُّلُ بِمَعْنَى الثِّقَةِ بِاَللَّهِ , وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ وَاجِبٌ , وَمَأْمُورٌ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ , وَفِي سُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ , وَقَالَ : تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ }
——————————————————————————–
التوكل و الأخذ بالأسباب :
التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ لَا يَتَنَافَى مَعَ السَّعْيِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ مِنْ مَطْعَمٍ , وَمَشْرَبٍ , وَتَحَرُّزٍ مِنْ الْأَعْدَاءِ وَإِعْدَادِ الْأَسْلِحَةِ , وَاسْتِعْمَالِ مَا تَقْتَضِيهِ سُنَّةُ اللَّهِ الْمُعْتَادَةُ , مَعَ الِاعْتِقَادِ أَنَّ الْأَسْبَابَ وَحْدَهَا لَا تَجْلُبُ نَفْعًا , وَلَا تَدْفَعُ ضَرًّا , بَلْ السَّبَبُ ( الْعِلَاجُ ) وَالْمُسَبَّبُ ( الشِّفَاءُ ) فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى , وَالْكُلُّ مِنْهُ وَبِمَشِيئَتِهِ .
وَقَالَ الرَّازِيّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْت فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ التَّوَكُّلُ أَنْ يُهْمِلَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْجُهَّالِ وَإِلَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالْمُشَاوَرَةِ مُنَافِيًا لِلْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ . بَلْ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ : أَنْ يُرَاعِيَ الْإِنْسَانُ الْأَسْبَابَ الظَّاهِرَةَ وَلَكِنْ لَا يُعَوِّلُ ( يعتمد ) بِقَلْبِهِ عَلَيْهَا , بَلْ يُعَوِّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ الصَّحِيحَ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ . وَبِدُونِهِ تَكُونُ دَعْوَى التَّوَكُّلِ جَهْلًا بِالشَّرْعِ وَفَسَادًا فِي الْعَقْلِ . وَقِيلَ لِأَحْمَدَ ( بن حنبل ): مَا تَقُولُ فِيمَنْ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ وَمَسْجِدِهِ وَقَالَ لَا أَعْمَلُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِيَ رِزْقِي ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ : هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ الْعِلْمَ , أَمَا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي } . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَقْعُدُ أَحَدُكُمْ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي , وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّمَاءَ لَا تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً .
——————————————————————————–
التوكل في القرآن و السنة :
وَقَدْ تَوَاتَرَ ( تكرر كثيراً ) الْأَمْرُ بِالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ فِي الْقُرْآنِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
القرآن :
a.. َقَالَ تعالى : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ }
b.. وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ }
c.. وَقَالَ : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } .
السنة :
a.. أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ أَنْ يَتْرُكَ نَاقَتَهُ وَقَالَ : أَأَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ , أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اعْقِلْهَا , وَتَوَكَّلْ } .
b.. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ } .
c.. وَأَمَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّدَاوِي : وَقَالَ { تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ مَعَهُ الشِّفَاءَ } . أَيْ تَدَاوَوْا وَلَا تَعْتَمِدُوا فِي الشِّفَاءِ عَلَى التَّدَاوِي . بَلْ كُونُوا مُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , فَالتَّدَاوِي لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ .
d.. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا } . وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ التَّوَكُّلَ يَكُونُ مَعَ السَّعْيِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلطَّيْرِ عَمَلًا وَهُوَ الذَّهَابُ صَبَاحًا فِي طَلَبِ الرِّزْقِ , وَهِيَ فَارِغَةُ الْبُطُونِ , وَالرُّجُوعُ وَهِيَ مُمْتَلِئَتُهَا
——————————————————————————–
ربنا .. عليك توكَّلنا .. و إليك أنبنا .. و إليك المصير
تحياتي لج