من منا لا يخاف …كلنا بدوا استثناء . إذا فالخوف هو شعور طبيعي وحالة سوية يصاب بها كل كائن حي؛ فثمة خوف يشترك به جميع أفراد الجنس البشري وهو – على سبيل المثال – الخوف من الموت، أو من الشيخوخة، أو من المستقبل… أو من الفشل.. وغير ذلك. و لكن متى يصبح الخوف حالة مرضية ؟؟ عندما يتجاوز الشعور الطبيعي و يصبح هاجسا نفسيا يقلقه باستمرار و يلاحقه و بالتالي يتحول صاحبه إلى عصابيا أو شاذا كخوفه من النساء، أو من المجتمع، أو من المسؤولية، أو من الاختلاط.. الخوف الزائد من الشيخوخة المرض الفشل وما إلى ذلك.
ما تعريف الخوف:
عرّف علماء النفس الخوف بأنه قلق نفسي، أو عصاب نفسي لا يخضع للعقل ويساور المرء بصورة جامحة من حيث كونه رهبة في النفس شاذة عن المألوف تصعب السيطرة عليها والتحكم بها .
وقد اختلف علماء النفس القدامى مع علم النفس الحديث حول ماهية الخوف؛ فالقدامى اعتبروه غريزة إنسانية، بينما يتحدث علم النفس الحديث عنه كميل فطري، له وظيفة حيوية ألا وهي حماية ذات الكائن من عوامل التهديد والمخاطر.
وتنطوي مثل هذه المخاوف على حالة مرضية تنشأ عادة من جرّاء تجارب فاشلة أو تتولد نتيجة لصدمات نفسية عنيفة.
مصادر الخوف:
قد يكون مصدر الخوف خارج جسم الإنسان نتيجة مؤثر خارجي كالتعرض لهجوم أو لمرض أو لنقص الموارد الغذائية و المائية أو التعرض للحيوانات المفترسة أو التعذيب …. و غيرها
أو المصدر داخل جسم الإنسان انبعاث داخلي يظل حبيس الجسم ويصبح تأثيره أشد وقعاً في النفس الإنسانية.
ومهما يكن نوع الخوف فإنه يؤدي إلى استجابات انفعالية تؤثر في السلوك العام للفرد، وتتوقف هذه الاستجابات على قوة الحافز الخارجي (الخطر)… ومدى قابلية الجسم المؤثر في الرد عليه أو الاستكانة له، فنجده مرة خوفاً حركياً، حينما يفاجأ الكائن الحي بخطر ما، فإن خوفه في هذه الحالة يتحول إلى هرب وطلب للنجاة، و يمكن أن يتحول إلى تأهب واستعداد أو دفاع أو هجوم، حينما يجد الكائن الحي نفسه قادراً على مواجهة ذلك الخطر اعتماداً على قابليته الجسدية، وخبرته في مواقف مماثلة، لكن الخوف في مواضع أخرى يصبح متسلطاً تماماً بحيث لا يجد الطرف الآخر حيال الخطر الداهم إلا أن يستكين له تماماً، وتشل حركته وقد يصيبه الإغماء أو ما يشبه الموت بل قد يصل إلى حالة الموت الحقيقي.
وإلى جانب الاستجابات الانفعالية الحركية تحدث تغيرات فيزيولوجية داخل الجسم البشري، حيث تفرز هرمونات من شأنها زيادة سرعة نبضات القلب، وارتفاع ضغط الدم، وانقباض الأوعية، وضغط النشاط العضلي للمعدة والمثانة، واتساع حدقتي العين، وجفاف الحلق، واصفرار الوجه، ولكن سرعان ما تزول هذه الأعراض بزوال حالة الخوف
و نتيجة لهذا الخوف يلجأ الإنسان إلى الأمن بكافة أشكاله . و هو من أهم متطلبات الإنسان في حياته
من هنا تنشأ العلاقة الوثيقة بين الأمن والخوف، ويكونان معاً قطبي الحياة الإنسانية؛ فإذا كان الخوف قطبها السالب، فإن الأمن قطبها الموجب… وقد اهتمت جل الحضارات البشرية ونتاجات الثقافات الإنسانية بهذا الجانب، بحيث صار شغلها الشاغل هو رفد حياة الإنسان بالمزيد من الشعور بالأمن والطمأنينة، ويتجسد هذا الشعور في كثير من المفردات الاجتماعية؛ فمن الملاحظة البسيطة نجد أن المريض وهو يشكو علة ما، وينتابه خوف منها ومن أعراضها يفر هارباً يشكو خوفه إلى طبيبه، أو عندما يقع حيف على شخص ما ويخاف أن يضيع حقه، أو يخاف الطرف الآخر لقوته، نراه يهرب خائفاً، ويلوذ بالقانون أو القضاء لينقذه من ذلك الحيف الذي وقع عليه.
الأسرة لها دور هام في بناء هذا الخوف ( الشاذ) فمما لا شك فيه أن أساليب التربية التقليدية تهيمن وبشكل واسع على أوساطنا الاجتماعية، وهي تتباين بالطبع وفقاً لتباين الأوساط الاجتماعية ومستوى الوعي التربوي والثقافي للفئات الاجتماعية المختلفة.
ونتيجة لهذا التباين تختلف ظواهر الخوف عند الناشئة، فالطفل الذي يجد نفسه يعيش في كنف نظام تربوي صارم يجبره على اتباع أساليب معينة ينشأ وهو يستمرأها حتى تصبح مألوفة لديه، وكذلك يكون أكثر من غيره عرضة للوقوع فريسة للأمراض النفسية والاجتماعية الخطيرة.
وقد يكون مصدر الخوف عند الطفل السلوك غير السوي الذي يتبعه بعض الآباء؛ مما يولد في نفسه عقدة الاحتقار والتضاؤل حيال الآخرين، فهو حينما يرهبه وجه أبيه الغاضب وهو يرفع كفه ليلطم خده الطري، والأحكام السلبية التي يصدرها الأبوان ضد الطفل، أو ما يتبعه بعض الآباء لتوليد نمط من السلوك عند أطفالهم بالاعتماد على قصص خيالية مخيفة، تفوح منها رائحة الدم والقتل، والحرق بالنار وقطع الأعناق وما إلى ذلك.
.. مما يولد في ذات الطفل حالة من الفزع والقلق والتوتر.. أمام كل هذا وذاك يتولد الخوف في نفس الطفل والذي ينمو شيئاً فشيئاً حتى يصبح مرضاً لا يمكن الشفاء منه بسهولة. وهكذا ينشـأ عن الأنظمة التربوية الخاطئة التي تمارسها الأسرة مع الأبناء الصغار جيل خائف يتميز بالعجز والقصور في تحمل المسؤولية، وتولد في ذاته عقدة الذنب، ويصبح إنساناً عصابياً؛ لأن الطفل الذي يعيش الخوف في كل دقائق حياته لم يكن آمناً قط، فيكون انطوائياً، ومتسلطاً في كبره وهو يحمل عقد طفولته لذا فإن النظام التربوي الصارم من شأنه أن يحقق عملية استلاب شاملة للإنسان.
الخوف في المنظور الديني:
أ) الخوف في القرآن: لقد وردت مفردة الخوف ومشتقاتها في 124 آية قرآنية، بما تعنيه كل مفردة منها، لكن كلمة (خوف) وحدها وردت 21 مرة، ومشتقاتها 103 مرة، وقد اتخذت معاني كثيرة تحدث عنها القرآن الكريم؛ حيث قال تعالى: (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت) (الأحزاب: 19).
وقال: (هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً) (الرعد: 12).
(يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) (النور: 37).
والخوف في هذه الآيات الشريفة جاء بمعنى الفزع.
وحينما يمتدح الله قوماً يصفهم بالخوف.. كقوله تعالى: (ويخشون ربهم ويخافون سوء العذاب) (الرعد: 21).
وقوله تعالى: (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما) (المائدة: 23).
وآية أخرى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً) (السجدة: 16).
ويقول تعالى: (يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه) (الإسراء: 57).
وقد ورد الخوف في القرآن الكريم على لسان الصالحين من أولياء الله.. كقوله تعالى: (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) (الأنعام: 15).
(إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) (الأعراف: 59).
وآية أخرى: (قال رب إني أخاف أن يقتلون) (الشعراء: 14).
وقد وصف القرآن الكريم حالة الخائفين وصفاً رائعاً وبيّن الأعراض التي تظهر على وجوههم وجلودهم.. فيقول سبحانه: (فإذا أُنزلت سورةٌ محكمة وذُكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) (محمد: 20).
وآية أخرى: (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) (الزمر: 23).
كما جاء في القرآن نهي عن الخوف من غير الله؛ حيث قال سبحانه: (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) (آل عمران: 175).
فالخوف من الله إذن هو معيار الإيمان للمسلم، وكذلك فإن من يؤمن بالله لا يخاف أي شيء.. كما ورد في قوله تعالى: (فمن يؤمن بربّه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً) (الجن: 13).
(ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً) (طه: 112).
ب) الخوف في السنة النبوية: وكذلك وردت كلمة الخوف على لسان النبي الأكرم(ص) وأهل البيت(ع).. مرة حمداً ومرة ذماً..
فعن رسول الله(ص) قال: (وأعلى الناس منزلة عند الله أخوفهم منه).
وقال: (أتمكم عقلاً أشدكم لله خوفاً).
وعن أمير المؤمنين(ع): (من خاف الله أمّنه الله سبحانه من كل شيء).
وتحدث عن علاقة الخوف والأمن فقال(ع): (ثمرة الخوف الأمن).
وقد اعتبر رسول الله(ص) أن كمال العقل الخوف من الله…. فقال: (أكمل الناس عقلاً أخوفهم لله وأطوعهم إليه).
وعن الإمام الصادق(ع): (من عرف الله خاف الله ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا).
ج) آراء في الخوف: تحدث علماء الإسلام عن الخوف كثيراً، فكما وضع علماء النفس علاجاً للخوف عند الانسان، فإن علماء الدين قد أعطوا العلاج مستشفاً من الرسالة السماوية، ونقف هنا عند رأي سماحة الإمام السيد محمد الشيرازي(دام ظله) وهو يتحدث عن الخوف(5)، فيقول: (الخوف في الحقيقة ناتج عن بعض الانفعالات لدى الإنسان بتأثير عوامل خارجية أو داخلية أو كليهما.. والخوف على قسمين:
– خوف إيجابي: وهو خوف الإنسان من خالقه، وهو خوف محمود ونصت عليه النصوص الشرعية، حيث قال الله تعالى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى).
– الخوف السلبي: وهو خوف الإنسان من المخلوق، وهو خوف مذموم نهت عنه النصوص الشرعية، حيث قال الله تعالى: (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين).
وعلى صعيد العلاج قال سماحته: علاج هذه العلة -يعني الخوف السلبي- على نوعين:
الأول: هو التمرن وممارسة الأعمال التي من شأنها أن تساعد الشخص في التغلب على الخوف، ولكن هذا العلاج محدود وقاصر.
الثاني: هو الإيمان بالله تعالى، وهذا العلاج شامل لجميع العلل والأمراض التي تصيب الإنسان فالشخص المؤمن الواثق من إيمانه بالله سبحانه وتعالى لا يخاف ولا يهاب شيئاً، سوى خالقه جل وعلا.
وفيما يتعلق بخوف المسلمين سياسياً وعسكرياً في حاضرهم وما يجره عليهم من ذل واستكانة ورضوخ، يخلص سماحة الإمام (دام ظله) إلى القول: (فهذه الوساوس، وهذا الخوف الذي زرع في قلوب أغلب المسلمين من قوة العدو وامتلاكه الأسلحة المتطورة، جاء نتيجة قلة إيمانهم بخالق الكون، فلو كانوا مؤمنين مرتبطين بالله تعالى لما خافوا أعداءهم من الشرق والغرب).
و أنهي البحث في التلخيص الت بأن الخوف قد يكون محموداً أو مذموماً لكنه في حقيقته شيء طبيعي يساور الإنسان السوي بسبب المؤثرات الخارجية والوساوس الداخلية، وقد يؤدي الخوف، إذا استحكم في الكائن الحي، إلى استجابات انفعالية، قد تظهر إما بشكل حركي؛ كالهرب، أو المقاومة، أو الاستكانة، وإما بشكل مرض يفقده التوازن في شخصيته، بحيث لا يمكن الاعتماد عليه، أو الركون إليه.
وهناك نوع من الخوف يجب أن يتعزز لدى الإنسان ألا وهو الخوف من الله سبحانه، الذي يكون مدعاة إلى الأمن والشعور بالطمأنينة، وهو باب للسعادة في الدنيا والآخرة.
تمنياتي بالتوفيق لجميع القارئين و المهتمين
الله يحرم وجهي وجهك وكل المسلمين والمسلمات عن النار يااارب
لي الشرف اول من يرد موضوعك