F:
ومن مواقف السماحة والعفو في حياته صلى الله عليه وسلم حينما همّ أعرابي بقتله حين رآه نائمًا تحت ظل شجرة، وقد علّق سيفه عليها، فعن جابر رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذات الرقاع (إحدى غزوات الرسول)، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت شجرة فعلّق بها سيفه، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم معلّق بالشجرة فأخذه فقال: تخافني؟ قال: لا، فقال: فمَن يمنعك مني؟ قال الله، فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السيف فقال: مَن يمنعك مني؟ فقال: كن خير آخذ. فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني أُعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله، فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس".
اذهبي إلى أبي سفيان واشتكي له!!
وكذلك فإن التسامح ملحوظ يوم جاءت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها وهي صغيرة السّنّ إلى أبيها صلى الله عليه وسلم، تشتكي لطـْمَ أبي جهل لها -لطمها أبو جهل- فقال لها المصطفى صلى الله عليه وسلم: "اذهبي إلى أبي سفيان واشتكي له"، وذهبت إلى أبي سفيان، وقالت له القصة، فأخذها أبو سفيان وكان مشركًا، وقال لها: الطمي أبا جهل كما لطمك، فلطمته وعادت، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فرفع يديه إلى السماء وقال: "اللهمَّ لا تنسها لأبي سفيان". يقول ابن عباس: فما أظنُّ أنَّ إسلام أبي سفيان إلا استجابةً لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم هذه.
غلظ الأعرابي وتسامح الرسول
عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني (عباءة) غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه جبذة (جذبه جذبة قوية) حتى رأيت صفح عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثّرت بها حاشية البرد من شدة جبذته (تركت الجذبة علامة على عنق الرسول)، فقال: يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.
اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي
لمّا اشتدّ بلاء قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاة ناصره أبي طالب، عانى الرسول صلى الله عليه وسلم من سفهاء قريش ما عاناه؛ حيث إنّهم تجرّؤوا عليه وكاشفوه بالأذى، ونالوا منه ما لم ينل قومه في مكة.
وقد كان معه آنذاك زيد بن حارثة مولاه، فأقام بينهم في الطائف عشرة أيّام لا يدع أحداً من أشرافهم إلاّ جاءه وكلّمه.
فقالوا: أخرج من بلادنا، وأغرّوا به سفهاءهم، فأخذوا يضربونه بالحجارة حتّى اختضبت نعلاه بالدماء.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذونه بعضديه ويقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، بينما كان زيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتّى لقد شجّ في رأسه شجاجاً.
فعمد إلى الظلّ وانصرف عنه السفهاء، فأخذ صلى الله عليه وسلم يناجي ربّه ويدعوه بالدعاء قائلاً: "اللهمّ إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى عدوّ بعيد يتجهّمني، أو إلى عدوّ ملّكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أُبالي، غير أنّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلاّ بك".
فإذا بجبريل عليه السلام ينادي ويقول إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلّم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبًا وشمالاً)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً.
رسول الله وتسامحه مع جاره اليهودي
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاوره جار يهودي، وكان اليهودي يحاول أن يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يستطيع خوفًا من بطش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان أمامه إلا الليل والناس جميعاً نيام؛ حيث كان يأخذ الشوك والقاذورات ويرمي بها عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولما يستيقظ رسولنا الكريم فيجد هذه القاذورات كان يضحك صلى الله عليه وسلم، ويعرف أن الفاعل جاره اليهودي، فكان نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم يزيح القاذورات عن منزله ويعامله برحمة ورفق ولا يقابل إساءته بالإساءة، ولم يتوقّف اليهودي عن عادته حتى جاءته حمى خبيثة، فظلّ ملازمًا الفراش يعتصر ألمًا من الحمى حتى كادت توشك بخلاصه، وبينما كان اليهودي بداره سمع صوت الرسول صلى الله عليه وسلم يضرب الباب يستأذن في الدخول، فأذِن له اليهودي فدخل صلوات الله عليه وسلم على جاره اليهودي وتمنّى له الشفاء، فسأل اليهودي الرسول صلى الله عليه وسلم وما أدراك يا محمد أني مريض؟؟ فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: عادتك التي انقطعت (يقصد نبينا الكريم القاذورات التي يرميها اليهودي أمام بابه)، فبكى اليهودي بكاءً حارًا من طيب أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتسامحه، فنطق الشهادتين ودخل في دين الإسلام.