اعتدنا أن نُسلم بجمال الظلام بعد غياب الشمس، وبجمال الصبح بعد غياب القمر، منهجنا في ذلك الرضا بالموجود وعدم الإلحاح في طلب الغائب،.. إذ لو كان بمقدورنا استيقاف لحظة من الزمان لكان استوقافنا للحظات ودقائق سعادتنا والاستراحة، ولو لبضع ثوان في ظلال نخيل الأمس، استيقافاً لائقاً بكل لبيب.
ولما كان عدم الجدوى مصير كل باحث عن قهر الأحداث، وكسر صلابة المصائب والنوائب، وكان من الجدير بكل مؤمن التسليم بما أراد الله من قضاء وقدر، بل كان حريٌّ بنا أن نكفكف دموع الحرارة، ونستوقف نزيف المرارة، مستلهمين الصبر من إيماننا ويقيننا، وناهلين من منهل الاحتساب دواء الروح.
نعم.. تذوب في أفئدتنا شرايين الدماء، وتتعطل لغة الكلام عن الكلام؛ لأنَّ الحروف والبيان في مثل هذه المواقف ليس لهما ـ وإن عظما ـ أقل أهمية مقارنة بعظيم المصاب، وإنَّ اندلاع النار في الجسد، واشتعال الحزن والكمد؛ لهما حريقان يصعب علي أي أحد إطفاؤه، فلطالما استمرت شظايا الألم والحرمان تتطاير مدمرة حصون الثبات وقصور العزيمة والتجلد، ولطالما اندلع الإحساس بالوحشة والمرارة إزاء فقدنا من نحب، ومقابل غيابنا عمن نريد، بل مقابل غيابهم عنا لأي ظرف كان، ولأي سبب يكون؛ لأن فطرة النفس التعلق بمن تهوى، والتشبت بمسدي المعروف وصانع الإحسان.
ولعلَّنا يعلم بعضنا ـ إن لم نعلم جميعاً ـ كم أضمر سعير القلب وأشعلت فتيلته عندما نُجبر على الرحيل عنهم أو يُجبروا هم على ذلك.. وليس لنا عن هذا محيد.. لأنَّ مشيئة الله تعالى فوق كل مراد.
ولما كنا في هذه الدنيا رُحالاً.. نعبر طريق السفر في ليل مظلم موحش في مسارنا إلاّ من نور الإيمان بالله، نريد الوصول إلى الدار الأزلية الباقية، إلى مآلٌ لا نعرف هل سنكون فيه أشقياء أم سعداء، أنُنزل فيها منزل الشرف والتقديم، أم منزل الدناءة والتجريم.. كان لزاماً علينا أن نحث الخطى في السير للقربات وغرس أشجار الجنة بذكر الله، تسليةً للنفس عند المصاب, وإنَّ من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وحالنا جميعاً حالٌ واحد : نحيا ونعيش ثم الموت يلقانا.. حتمٌ قضاه الربُ تعالى على كل كائن في هذا الكون، ومصيرٌ مؤكد لجميع من وُجد في هذا الوجود.. فنتضرَّع إلى الله أن يُحسن في دار العمل عملنا، ويُصيرنا إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض.