هذه الأيام السياحة مكلفة، سواء في أدوات النقل، أو في مكان النزول، أو في ما يلتهي به الناس في أسفارهم، ولكن هنالك محطة مجانية يمكن أن يتخذها الإنسان مجالاً للسياحة، لأجل أن يروّح عن نفسه وبلا كلفة مالية – بل حتى بدنية – فبإمكانه أن يسيح في عالم جديد جداً.. هذه السياحة موطنها عقيب الصلوات الواجبة والمستحبة، وفي حال السجود وفي جوف الليل.
هنالك ثلاث محطات عبادية للمؤمن، ليسيح فيها بروحه ويا لها من سياحة!.. هذه السياحة تدرك ولا توصف، الإنسان في هذه السياحات الثلاث تنخلع روحه من بدنه كما وصفها بعضهم، وإن كان البعض يدعي أن بعض الاشخاص يصل على درجة من الدرجات، ليعيش حالة الموت الاختياري، أو شبيه عالم المنام، ولكن باختياره.. ولكن إجمالا، الإنسان المؤمن له سياحته الخاصة، فمن عاش هذا الجو يعلم ماهية هذه السياحة، يُفهم من ذلك أن المؤمن يعيش هذه الحالة من التحليق الروحي، والذي يوفق في أن يتقن هذه السياحة، سيستفيد من ثمرتها في صلواته اليومية.
البعض يتحير فيما يفكر في صلاته وأين يتجه، فيستحضر منظر الكعبة مثلاً .. المسجد الحرام…الخ. في الواقع هذه الصورة المادية لا تجلب له الخشوع، ولطالما رأينا بعض الحجاج والمعتمرين، وهم في جوف الكعبة أو بجوارها، ويعيشون حالة السرحان المعهودة المعروفة في أوطانهم.
ومن هذه السياحات السجود، آثار السجود.. السجود من أرقى مستويات الارتباط بالله عز وجل، كهيئة بدنية.. فالإنسان وهو واقف ومطرق برأسه، يعتبر إنسان متذلل. الإنسان الراكع أيضا متذلل ولكن السجود أكثر تذللا، ولهذا إذا روئي هذه الأيام إنسان يسجد لملك من الملوك، مهما عظم سلطانه، ومهما عرف هذا الإنسان بالتملق وما شابه ذلك، فان الأمر لا يصل إلى مستوى السجود، طبيعة بني آدم ولو كان سيئاً جداً، تستنكف من السجود أمام البشر.. وعليه، فإن الإنسان في هذه السجدة يتقلص حجمه إلى أقل حجم ممكن، فالإنسان الساجد تتداخل أعضاء بدنه.. وبالتالي يأخذ حيزاً صغيراً جداً، وخاصة إذا كان نحيفاً أو قصير القامة مثلاً، فإن هيئته ستكون هيئة صغيرة جداً بالنسبة إلى الحجم، وهو على مستوى أكثر انخفاضا قياساً بالركوع والقيام. عندما يكون الإنسان ساجداً يكون تقريباً على مستوى متقارب لسطح الأرض، ثم يضع جبهتـه – وهي المـوازية لمخـه ولرأسه، وهي أشرف بقعة – على أرخص شيء في هذا الوجود، ألا وهو التراب.
فإذاً الإنسان الساجد يعيش بدنيا هذه الحالة التذللية في أقصى درجاتها.. وعليه فالجو مادياً مهيأ للانطلاقة الكبرى في هذه الحياة.. الإنسان الساجد يصل إلى درجة وكأن جبهته تريد أن تسجد، فكأن هنالك نقص في بدنه وفي وجوده.. وفي روحه حالة من الغليان الباطني، هذا الغليان لا يفتر ولا يهدأ إلا بالسجود بين يدي الله سبحانه وتعالى، ولو أدمن الإنسان هذه الحالة، فبإمكانه أن يستوعب شيئاً قليلاً مما ينقلعن من يطيل السجود .. نصفه بأنه صاحب السجدة الطويلة.. الرسول صلى الله علية واله وسلم والصحابةمعروفون بهذه الصفة، ولا نستغرب إذا روي بأن أحدهم كان يسجد مثلاً من طلوع الشمس إلى الزوال.. فالمعاني التي يعيشونها في حال السجود، تجعلهم يطيلون في هذه الحركة التذللية.
منقول