إن هذا الحدث فرصة لتوجيه الناس إلى ربهم , وتبصيرهم بقدرة القادر وقهره وشديد بأسه وأليم عقابه وغيرته على محارمه وحدوده ؟!
وبمثل هذه المناسبة يقوم الإعلام كعادته بدوره المعتاد في تعتيم القضايا وتمييعها والميل بها عن أسبابها الحقيقية ومقدماتها المنطقية .. فيكرّر على مسامعنا بأن الزلازل كوارث طبيعة .. وأن هذه الأرض منطقة زلازل ..و يسدل الستار على كل حادث مشابه وينتهي التعليق ؟!!
الشيء الذي نستهجنه هو التفسير المادي للأحداث مع تنحية النظرة الشرعية والسنن الإلهية في الأفراد والمجتمعات .
إن أصحاب النظرة المادية قد أصيبوا بنوع هوسٍ من شدة إغراقهم في هذه النظرة , حتى إني أظن أن أحداً منهم لو عايش قارون وهو يخسف به وبداره الأرض لقال وبكل وقاحة وسذاجة : إن قارون قد ابتنى بيته على فوهة بركان ميت أو بحث عن تعليل عليل آخر …!!
وإنه ليجب أن يكون حاضرا في الذهن إن الزلازل آية من آيات الله يخوف الله بها عباده , ينتظر من القلوب أن تحيا عند وقوعها لا أن تموت , ومن النفوس أن تستنير لا أن تطاول في العمى وتصر على الغي واتباع الهوى .
ورحم الله سلفنا الصالح حيث قالوا :
ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة .
فالواجب على المؤمنين أن يكونوا على وجلٍ من ذنوبهم كما قال الحسن البصري رحمه الله : إن المؤمن لا يصبح إلا خائفاً ولا يصلحه إلا الخوف . وعليهم أن يرجعوا إلى ربهم ويتوبوا إليه { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} أما أن تحور القضية على أنها حوادث طبيعية وكفى , ويبقى الناس على بعدهم وغفلتهم وقسوة قلوبهم وترتجف البحار ولا ترتجف القلوب .. فهذا وربي أشد من تزلزل الأرض لأن موت القلوب أشد من موت الأبدان .
يقول سماحة الإمام عبدالعزيز ابن باز ـ رحمه الله ـ :
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فإن الله سبحانه وتعالى حكيم عليم فيما يقضيه ويقدره ، كما أنه حكيم عليم فيما شرعه وأمر به وهو سبحانه يخلق ما يشاء من الآيات ، ويقدرها تخويفا لعباده وتذكيرا لهم بما يجب عليهم من حقه وتحذيرا لهم من الشرك به ومخالفة أمره وارتكاب نهيه كما قال الله سبحانه : وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا وقال عز وجل : سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وقال تعالى : قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ الآية .
وروى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لما نزل قول الله تعالى قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك ، قال : أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال : أعوذ بوجهك وروى أبو الشيخ الأصبهاني عن مجاهد في تفسير هذه الآية : قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قال : الصيحة والحجارة والريح . أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال : الرجفة والخسف .
ولا شك أن ما حصل من الزلازل في هذه الأيام في جهات كثيرة هو من جملة الآيات التي يخوف الله بها سبحانه عباده . وكل ما يحدث في الوجود من الزلازل وغيرها مما يضر العباد ويسبب لهم أنواعا من الأذى ، كله بأسباب الشرك والمعاصي ، كما قال الله عز وجل : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ وقال تعالى : مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وقال تعالى عن الأمم الماضية : فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
فالواجب على جميع المكلفين من المسلمين وغيرهم ، التوبة إلى الله سبحانه ، والاستقامة على دينه ، والحذر من كل ما نهى عنه من الشرك والمعاصي ، حتى تحصل لهم العافية والنجاة في الدنيا والآخرة من جميع الشرور ، وحتى يدفع الله عنهم كل بلاء ، ويمنحهم كل خير كما قال سبحانه : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وقال تعالى في أهل الكتاب : وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وقال تعالى : أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ وقال العلامة ابن القيم – رحمه الله – ما نصه : (وقد يأذن الله سبحانه للأرض في بعض الأحيان بالتنفس فتحدث فيها الزلازل العظام ، فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية ، والإنابة والإقلاع عن المعاصي والتضرع إلى الله سبحانه ، والندم كما قال بعض السلف ، وقد زلزلت الأرض : (إن ربكم يستعتبكم) .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد زلزلت المدينة ، فخطبهم ووعظهم . ، وقال : (لئن عادت لا أساكنكم فيها) انتهى كلامه رحمه الله .
والآثار في هذا المقام عن السلف كثيرة .
فالواجب عند الزلازل وغيرها من الآيات والكسوف والرياح الشديدة والفياضانات البدار بالتوبة إلى الله سبحانه ، والضراعة إليه وسؤاله العافية ، والإكثار من ذكره واستغفاره كما قال صلى الله عليه وسلم عند الكسوف : فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره ويستحب أيضا رحمة الفقراء والمساكين والصدقة عليهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ارحموا ترحموا الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء وقوله صلى الله عليه وسلم : من لا يرحم لا يرحم
وروي عن عمر بن عبد لعزيز رحمه الله أنه كان يكتب إلى أمرائه عند وجود الزلزلة أن يتصدعوا .
ومن أسباب العافية والسلامة من كل سوء ، مبادرة ولاة الأمور بالأخذ على أيدي السفهاء ، وإلزامهم بالحق وتحكيم شرع الله فيهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال عز وجل : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وقال عز وجل : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ وقال سبحانه : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ والآيات في هذا المعنى كثيرة ، وقال صلى الله عليه وسلم : من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته متفق على صحته
وقال عليه الصلاة والسلام : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه رواه مسلم في صحيحه . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعا ، وأن يمنحهم الفقه في الدين وأن يمنحهم الاستقامة عليه ، والتوبة إلى الله من جميع الذنوب وأن يصلح ولاة أمر المسلمين جميعا ، وأن ينصر بهم الحق ، وأن يخذل بهم الباطل ، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده ، وأن يعيذهم وجميع المسلمين من مضلات الفتن ، ونزغات الشيطان إنه ولي ذلك والقادر عليه . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية الإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
نشرت في الصحف المحلية في 13/7/1416هـ منها : الرياض – والجزيرة – والمدينة – وعكاظ .
اللهم ارحمنا يوم لا ينفع مال ولا بنون 0
الكاسكو