فأكل الحلال هو الذي تلين به القلوب وتسمو على إثره الروح ، وهو دواء غير معتاد وزاد يغفل عنه الكثيرون ، ويحسبون الأمر بكثرة الصيام وطول القيام فحسب ، وهو الأمر الذي غاب عن بشر بن الحارث وعن صاحبه عبد الوهاب بن أبي الحسن ، لكن ما كان ليغيب عن إستاذهما أحمد بن حنبل ، فعن أبي حفص عمر بن صالح الطرسوسي قال :
" ذهبت أنا ويحيى الجلاء إلى أبي عبد الله فسألته ، فقلت : رحمك الله يا أبا عبد الله بم تلين القلوب؟! فأبصر إلى أصحابه فغمزهم بعينه ، ثم أطرق ساعة ، ثم رفع رأسه ، فقال : يا بني بأكل الحلال ، فمررت كما أنا إلى أبي نصر بشر بن الحارث ، فقلت له : يا أبا نصر! بم تلين القلوب؟! قال : ألا بذكر الله تطمئن القلوب. قلت : فإني جئت من عند أبي عبد الله ، فقال : هيه .. إيش قال لك أبو عبد الله؟! قلت : بأكل الحلال ، فقال : جاء بالأصل ، فمررت إلي عبد الوهاب بن أبي الحسن ، فقلت : يا أبا الحسن! بم لين القلوب؟! قال : ألا بذكر الله تطمئن القلوب. قلت : فإني جئت من عند أبي عبد الله ، فاحمرت وجنتاه من الفرح ، وقال لي : إيش قال أبو عبد الله؟! قلت : قال بأكل الحلال ، فقال : جاءك بالجوهر .. جاءك بالجوهر ، الأصل كما قال ، الأصل كما قال " .
ومن هنا أفتاك إبراهيم بن أدهم بما يلي :
" أطب مطعمك ؛ ولا عليك أن لا تقوم بالليل وتصوم بالنهار " .
بل وعقد هؤلاء العلماء المقارنات وعلَّموك مبكِّرا ما يُعرف بفقه الأولويات ، فنطق عبد الله بن المبارك وقال : " ردُّ درهم من شبهة أحب إليَّ من أن أتصدق بمائة ألف درهم ومائة ألف ومائة ألف ؛ حتى بلغ إلى ستمائة ألف " .
ومن بعد جاء إبراهيم بن أدهم الذي أرشدنا إلى طريق الارتقاء في مدارج المتقين فقال : " ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه ".
والثالث هو الفضيل بن عياض الذي قال : " من عرف ما يدخل جوفه كتبه الله صديقا ، فانظر عند من تفطر يا مسكين " ، وأخيرا سفيان الثوري الذي فضح آكلي الحرام المتستِّرين بالتصدق منه ببعض الإحسان ، فعرَّفهم حقيقة ما صنعوا بمثل واضح فاضح : "من أنفق من الحرام في طاعة الله كان كمن طهَّر الثوب النجس بالبول ، والثوب النجس لا يطهِّره إلا الماء ، والذنب لا يكفِّره إلا الحلال ".
وقرَّر أخيرا أبو حامد الغزالي في صرامة واضحة بعد أن استدل بكلام هؤلاء الفضلاء السابقين ( أن العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام ، وأن أكل الحلال هو أساس العبادات كلها )