وباللسان يتميز الإنسان عن العجماوات، فيترجم عن مكنونات الجنان، ويخبر عن مستودعات الضمير.
والكلمة خفيفة على اللسان، سهلة الجريان، لها مكانتها وقيمتها في نظر الشارع الحكيم، وعند العلماء والعقلاء.
وقد جاء التأكيد على قيمة الكلمة، ومسؤوليتها، وعظيم خطرها في نصوص شرعية كثيرة؛ فالعبد يكتب عليه كل ما يتكلم به، قال – تعالى -: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد 18 {ق: 18}، والمؤمن مأمور بأن يكون كلامه مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف، قال – تعالى -: (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا 70 يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم)) {الأحزاب: 70، 71}، وألا يُحدِّث بكل ما سمع، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"(1)، كما نهى المسلم أن يكون ثرثاراً أو متشدقاً أو متفيهقاً، قال – صلى الله عليه وسلم -: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون"(2).
والثرثار هو؛ كثير الكلام تكلفاً.
والمتشدق؛ المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه.
والمتفيهق هو؛ المتكبر.
وقد جعل الشارع الحكيم استقامة اللسان من خصال الإيمان، قال – صلى الله عليه وسلم -: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"(3).
وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بقول الخير، وبالصمت عما سواه، قال – صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت…. "الحديث(4).
قال ابن رجب – رحمه الله -: "وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يستوي قوله والصمت عنه، بل إما أن يكون خيراً فيكون مأموراً به، وإما أن يكون غير خير فيكون مأموراً بالصمت عنه"(5)، وحذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من التهاون بالكلام فلعله يورد صاحبه موارد ما ظن أنها تبلغ ما بلغت، قال – صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب"(6).
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: "توفي رجل من أصحابه – يعني النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أولا تدري، فلعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا يغنيه"(7).
وفي حديث معاذ بن جبل – رضي الله عنه – حينما سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: "أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار… الحديث، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه قال: كف عليك هذا قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟! "(8).
والمراد بحصائد الألسنة: جزاء الكلام المحرم وعقوباته؛ فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع ومعصية النطق يدخل فيها الشرك بالله وهو أعظم الذنوب، ويدخل فيها القول على الله بغير علم وهو قرين الشرك، ويدخل فيها شهادة الزور وغير ذلك من الكبائر والصغائر كالكذب، والغيبة، والنميمة، وسائر المعاصي الفعلية، وقد ذكر العلماء ضوابط للكلام من أهمها:
1- أن يقصد نشر الخير وتكثيره، ودرء الشر وتقليله.
2- أن يكون صادقاً في أحواله كلها، في العسر واليسر، في المنشط والمكره، قال – تعالى -: (( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون)) {النحل: 105}، ويكون الكذب الذي هو ضد الصدق بالتمويه تارة، والمغالطة وقلب الحقائق تارة أخرى، قال – تعالى -: (( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون )) {البقرة: 42}.
3- اختيار المناسب من اللفظ ووضعه في موضعه المناسب، فليست كل كلمة صادقة يصلح نشرها وتبليغها ولو كانت النوايا طيبة، والأهداف نبيلة؛ بل لابد من مراعاة المصالح والمفاسد، فمخاطبة العالم غير مخاطبة الجاهل، ومخاطبة الكبير ليست كمخاطبة الصغير، ومخاطبة الأمير تختلف عن مخاطبة غيره، قال – صلى الله عليه وسلم -: "أنزلوا الناس منازلهم"(9).
وقال عبد
الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"(10).
وقال الشاطبي – رحمه الله تعالى -: "وليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علماً بالأحكام"(11).
وبعد فاللسان خطره عظيم، ولا نجاة إلا بتقييده بلجام العقل، والوقوف عند آداب الشرع، فالمسلم يحفظ لسانه أن يتكلم، ويده أن تكتب إلا عن حق ينصره، أو باطل يرده، أو حكمة ينشرها، أو نعمة يذكرها.
وفي هذا العصر الذي تنوعت فيه وسائل الاتصال، وكثرت فيه قنوات البث، يقف المتأمل دهشاً من سوء استخدام هذه الوسائل الحديثة، فهذا يخوض في المسائل الشرعية بغير علم، وذاك ينشر البدعة، ويحارب السنة، وآخر يزرع الإرجاف، ويبث الإشاعات الكاذبة، وبالمقابل هناك من يثير الغرائز، ويحرك كامن الشهوات، يتكلمون ويكتبون ويحسبون أنهم عنها لا يحاسبون، فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وجزاك الله كل خير
بورك فيك أخية
نفع الله بك ولا حرمك الأجر والمثوبة