** من الناس من يظن أن الدنيا قد أدبرت عنه, وأنه لم يفز منها بما فاز به بعض أقرانه, فيصيبه الانكسار والاكتئاب, ويولي الدنيا ظهره يائسا منها.. وربما تدفعه هذه المشاعر السلبية إلي أن ينقم علي قدره كله, ويعتقد أنه من المنبوذين(!) وينعكس ذلك علي نظرته إلي الآخرة.. أي ينظر إليها نظرة اليأس واللا أمل.. فلا يبذل لآخرته شيئا يذكر, بل ربما أتي أشياء علي غير وعي منه أو بوعي, ينفس فيها عن غضبه وعدم رضاه عن قدره, يفقد بها آخرته, ويغلق علي نفسه أبواب الرحمة..
نفس الشئ قد تفعله فتاة شابة.. ربما تكون جميلة أو متوسطة الجمال, ومن أسرة كريمة, وعلي خصال حميدة.. وبرغم هذا كله يفوتها قطار الزواج( كما يقول البعض) والأصح أن يقال أن قطار الزواج لم يتوقف عندها أو لم يتوقف في محطتها, في حين أن صويحباتها قد تزوجن وأنجبن, وهن أقل منها في كل شئ تقريبا.. فينتابها اليأس والاحباط ولا تعود تهتم بنفسها, إذ يقول لها عقلها الباطن: وما الفائدة؟! وتسوء حالتها المعنوية, وهذا بدوره يجعلها هدفا للأمراض أو الأعراض التي تصاحب هبوط الحالة المزاجية للإنسانية, وخاصة إذا استمر هذا الهبوط لفترة.. إذ يبدو أن مقاومة الانسان للأمراض ترتبط ارتفاعا وانخفاضا مع ارتفاع أو هبوط حالته المعنوية.. فالحالة الجسدية والحالة المزاجية مرتبطتان أشد الارتباط.. وبذلك تذبل نضارة هذه الفتاة الشابة وتقل فرصتها في الزواج مع الوقت.. وقد تدفعها هذه الحالة إلي أن تنقم علي قدرها وتشك في عدالة السماء.. وتفقد بهذا ايمانها أو يهتز.. ولا تعود راغبة في أداء الفرائض أو التزام تعاليم الدين, حنقا علي الظلم الذي تظن أنه وقع بها.. وتخسر آخرتها مثلما ظنت أنها خسرت دنياها..
والصحيح في كل هذا أن يسلم الانسان أمره لله ولا يجعل اليأس يتسرب إلي نفسه تحت أي ظرف, وأن يكون لسان حاله ولسان مقاله معا وأفوض أمري إلي الله إن الله بصير بالعباد( غافر44) فالله يقسم الأرزاق بين العباد بحكمته وعدله, ولا يظلم ربك أحدا.. وإن تأخر الرزق أو تأخر الزواج أو تأخر نيل المآرب أيا ماكانت, فليس معني هذا أن الله لم يعدل معنا( حاشا لله) ولكن كما يقال: كل شئ بأوان.. والرزق ليس هو فقط الرزق المادي أو الزواج أو الانجاب أو الحصول علي منصب, ولكنه أشمل وأعم من كل ذلك.. فالإيمان- كرزق- أعظم من هذا كله, والذي آتاه الله ايمانا وتسليما ينبغي عليه أن يحمد ربه حمدا كثيرا.. لأن هذا الايمان نعمة لا تعدلها نعمة أخري من أنعم الحياة الدنيا.. فالإيمان هو الذي يدخلنا جنة الخلد, والتي إذا دخلناها كان فوزنا فوزا عظيما ولو كنا قد خسرنا كل حظوظ الدنيا أو جلها.. فنعيم الجنة خالد أبدي ومتاع الحياة الدنيا موقوت زائل.. هذا من ناحية, ومن ناحية أخري فما يدريك لعل الحظ أن يأتيك متأخرا بعض الشئ.. وربما يكون هذا الحظ الذي تأخر شيئا ما, أوفر من الحظ الذي جاء غيرك متقدما بعض الشئ؟! وما يدري الفتاة أن التي تزوجت قبلها سوف يكون زواجها ناجحا موفقا؟! أني أعرف حالة علي سبيل المثال, وقع فيها الطلاق بعد سنة واحدة من الزواج وبناء علي الحاح الزوجة بل إصرارها, لما رأت من سوء معدن الزوج وأهله.. وانفض الزواج الذي لم يكن موفقا أبدا.. علاوة علي أنه أثمر طفلا بغير أن يكون له أب حقيقي.. هناك سيناريوهات كثيرة في الحياة, ونحن ننظر إلي البدايات فقط ولا نعلم ماذا سيكون بعد ذلك.. فالحياة تخبئ أشياء كثيرة.. ولا ندري مقدما ماهي؟! وكيف ومتي تحدث.. ولذلك لا يحسن بالواحد منا أن تتملكه الغيرة من أحد أو يستكثر نعمة علي أحد.. أو يظن أنه كان أولي بهذه النعمة ممن حلت به..
الايمان والاذعان لله عز وجل كنز لا ينضب معينه, وسواء أعطينا مانرغب فيه أم لم نعط, أو أعطينا ما نرغب فيه متأخرا بعض الشئ, فكل ذلك بقضاء, ولحكمة لا يعلمها إلا الله.. وإذا لم نعط ما نرغب فيه وأعطي غيرنا, فلا ينبغي أن نحنق علي قدرنا ونستشعر الظلم.. فحاشا لله أن يظلم عباده, ولو اطلعنا علي الغيب فربما رضينا, ولكن الله لا يطلعنا عليه, ليختبر إيماننا وتسليمنا لحكمه ورضانا بقضائه وما كان الله ليطلعكم علي الغيب( آل عمران179) ولو اطلعنا فكيف نختبر إذن ؟!
أسوأ ما في الموضوع أن يتصرف الذي يظن أن قطار الحظ قد فاته أو لم يتوقف عنده- كما توقف عند غيره- أسوأ ما في الأمر أن يتصرف علي نحو يغضب بارئه وييأس من آخرته.. فالذي ييأس من آخرته لن تفيده حظوظ الدنيا مجتمعة- لو واتته- والأولي بنا أن نتمسك بآخرتنا إلي آخر المدي ولا نفرط فيها أبدا, ولا ندعها تفلت من بين أيدينا مهما يكن من أمر دنيانا.. فربما يكون ذلك بالضبط هو ما سينفعنا في آخرتنا ويدخلنا الجنة.. فيكون حرماننا من بعض حظوظ الدنيا أو تأخر ظفرنا بها هو مدخلنا إلي الجنة, أن نحن صبرنا واحتسبنا ما نلاقيه عند الله وأظهرنا تسليمنا وأذعاننا لأمره ورضانا بقضائه وإن لم يأت علي هوانا.. أي أن ما نظنه شرا قد يكون خيرا لنا ونحن لا نعلم والله يعلم وأنتم لا تعلمون( النور19)..
الآخرة لا ينبغي أن تفوتنا.. سواء كنا قد ظفرنا بما نبغي في الدنيا أم لم نظفر, وحتي لو ظننا أن حظنا في الدنيا قليل.. ليكن ذلك, ولكن الأهم أن يكون حظنا في الآخرة كبيرا.. وهذا في أيدينا.. فلنعض علي آخرتنا بالنواجذ ولا ندع حظوظنا في الدنيا تلهينا عن آخرتنا أو تجعلنا ندير ظهورنا لها..
فلنعمل للدنيا ما استطعنا, وبعد ذلك نتقبل ما تجود علينا به أقدارنا أو ما تحجبه عنا, ولكن لا تفوتنا الآخرة لأنها هي الأهم والأبقي.. ولا مجال للمقارنة, وحرماننا من بعض حظوظ الدنيا لا أهمية له علي الاطلاق.. ففي النهاية الآخرة هي التي تدوم, وهي التي لها كل الأهمية, ولا مجال للمقارنة بين الدنيا والآخرة.. أو بين المحدود واللامحدود, وبين الزائل والأبدي.. أنها تبدو كالمقارنة بين رقم واحد ورقم تريليون( مليون مليون) وهو واحد وعلي يمينه12 صفرا! وهو مجرد تشبيه تقريبي, لأن الاقامة في الجنة لن تنتهي ولا بعد تريليون سنة.. فهي لا نهاية لها علي الاطلاق!!
فهل بعد ذلك نأسي علي ما نظنه فاننا من حظوظ الدنيا؟! وربنا ذو الجلال ينبهنا إلي ذلك لكيلا تأسوا علي ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم( الحديد23)…
من جريده الاهرام بتاريخ 27 9 2024
مقاله دنيا والاخره
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ
منقول
جزاك الله خير
وبارك فيك
دمتي لنا بالف خير
تقبلي تحياتي
اختك
بنت المملكة
جزااااااك الله خيرا..