في سنة ست عشرة من الهجرة كان ذلك القرار الميمون بمرسوم عمري طاهر يحكي طهارة ذلك الجيل الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم فها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي االه عنه يصدر أمراً أن يتعامل المسلمون بالتاريخ الهجري ويتركوا ما سواه من التاريخ، فغدا التاريخ الهجري هو التاريخ المقدم عند المسلمين، يردون إليه ويصدرون عنه.
أخي المسلم: وها نحن نقدم الخطى لنعبر عتبات عام منصرم لندخل عاماً جديداً.
وما أعظم أن يدرك المسلم عظمة هذا التاريخ، ولكن هل يكفي هذا، وقد انفرط عقد النظام؟!!
أخي: كم هو مؤلم أن لا يتجاوز نظر المسلم موضع قدميه، فهذه هي جماعات المسلمين أفراداً وزرافات يحتفلون بميلاد عام هجري جديد، وهم إذ يحتفلون بذلك نسوا بأمر من أخذوا في احتفالهم هذا؟ هل كان ذلك بأمر من الله تعالى في كتابه العزيز؟ أم بأمر رسوله؟ أم هم مقتدون بصحابة النبي صلى الله عليه وسلم؟!
إنه لمن الخطأ الواضح أن يقدم المسلمون على فعل ليس له أصل من كتاب ولا سنة وهذا النبي صلى الله عليه وسلم يأمره الله تعالى أن لا يتجاوز وحيه {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106].
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالاتباع ونهاها عن الإحداث وأن من أحدث حدثاً في الدين فهو مردود عليه «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [رواه البخاري].
أخي في الله: ألا أدلك على خير من ذلك كله، وهو خير لك في معاشك ومعادك، فسأنضح عليك من طيب النصح، فهل من طالب لأريج المسك ونفحات العطر؟!
أخي: هل تذكرت نعمة الإسلام؟ والتي فاقت كل نعمة وما أعظمه من ميلاد يوم أن بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام فأخرج العباد من الظلام إلى النور ومن الضلال إلى الهدى، قال الإمام ابن رجب: " رحم الله عباده بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم فأنقذهم من الضلال كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ولهذا قال الله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] فمن حصل له نصيب من دين الإسلام فقد حصل له الفضل العظيم وقد عظمت عليه نعمة الله فما أحوجه إلى القيام بشكر هذه النعمة وسؤاله دوامها والثبات عليها إلى الممات والموت عليها فبذلك تتم النعمة ".
كم يمر العام الهجري على المسلمين وأكثرهم لا يتذكر هذه النعمة الجليلة، ولا يلتفت إليها إلا إذا مرَّ عليه رأس العام الهجري الجديد، فلا يتذكر ذلك إلا تذكر الغافلين، فما أعظمها من مصيبة.
ثم أخي المسلم: وأنت تتذكر العام الهجري الجديد هل خطر ببالك ذلك المصاب العظيم والذي زلزل المدينة الطاهرة يوم حدوثه؟
وهو موت النبي صلى الله عليه وسلم كم وكم من المسلمين لا ينتبهون لذلك، وهو الحدث الذي آذن بأول شرط من أشراط الساعة، نعم لقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم لنا كتاب الله تعالى وسنته الطاهرة ولكن فقده له وقعه الخاص على النفوس، هذا أبو الجوزاء يقول: "كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه ويقول: يا عبدالله ثق بالله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة".
إصبر لكل مصيبة وتجلد *** وأعلم بأنًّ المرء غيرُ مخلَّد
واصبر كما صبَر الكرامُ فإنها *** نُوبٌ تَنُوبُ اليومَ تُكشفُ في غد
وإذا أتتك مصيبة تشجى بها *** فاذكر مصابكَ بالنبي محمد
أخي: كم تمر على المسلم الأعوام والحال هي هي!! لا يتغير ولا يتبدل عما هو فيه من غفلة وقسوة في القلب ومعاص بلغت عنان السماء، أوامر الرحمن معطلة وأوامر الشيطان تنفذ انشغل الناس بالمعاصي، فإذا كان العام الهجري الجديد، قالوا: هذا هو العام الجديد.
ولكن..
أخي المسلم: أين الجديد من أفعالك؟ أين الجديد من أقوالك؟ ألا يوجد قلب تاه يفكر فيما مضى من العمر وانصرم من الساعات؟!! قال الإمام ابن رجب: "العجب ممن عرف ربه ثم عصاه وعرف الشيطان ثم أطاعه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ} [الكهف:50]. لما أهبط آدم إلى الأرض وُعد العود إلى الجنة هو ومن آمن من ذريته واتبع الرسل {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف:35] المؤمنون في دار الدنيا في سفر جهاد يجاهدون فيه النفوس والهوى، فإذا انقضى سفر الجهاد عادوا إلى وطنهم الأول الذي كانوا فيه في صلب أبيهم تكفل الله للمجاهد في سبيله أن يرده إلى وطنه بما نال من أجر أو غنية".
أخي في الله: ها هي الأرض تعج بالمعاصي والذنوب وتجأر إلى الله من ذلك، وقد غاب عن القلوب الرقيب والمذكر، فكانت المصائب والويلات التي تجرع المسلم مرارتها، زلازل فيضانات ومجاعات وحروب وكسوف بين الحين والآخر، فلا أحد يرعوي ولا مقلع عن الهوى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]. قال مجاهد: "أما والله ما هو بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر".
أخي: بلاء في بلاء وتمر السنين والشرور في ازدياد، قال مجاهد: "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم"، وقال عكرمة: "دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون منعنا القطر بذنوب بني آدم"، وقال بعض الصالحين وقد شكى إليه الناس بلاء وقع: "ما أرى ما أنتم فيه غلا بشؤم الذنوب". وقال الإمام ابن القيم: "ومن آثار الذنوب والمعاصي أنها تحدث في الأرض أنواعاً من الفساد في المياه والهواء والزروع والثمار والمساكن".
أخي المسلم: أما آن لك أن تدرك وأنت تدخل عاماً هجرياً جديداً، أن المعاصي والذنوب سبب من أسباب الذل والمهانة، وكم تأتي المعاصي بتسلط العداء والذل والصغار.
فقد كان من عامة دعاء إبراهيم بن أدهم: ((اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة)) ومن دعاء الإمام أحمد بن حنبل: ((اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك)) .
أخي: هذه فرصة جديدة لك إن قُدر لك أن تحيا هذا العام الجديد، فليكن لك من نفسك رقيباً، فإن الله تعالى محص عليك أعمالك إن كانت خيراً أو شراً، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» [رواه مسلم].
أخي المسلم: هل فكرت في أن لا يرفع لك إلا عمل صالح؟ فإن ساعات العمر محسوبة وكل يوم يمضي من حياتك ينقص به يوم من عمرك يكتب لك فيه ما قلته من قول أو فعلته من فعل {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يكتب كل ما تكلم به من خير وشر حتى إنه ليكتب قوله: أكلتُ وشربتُ وذهبتُ وجئتُ ورأيتُ حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان فيه من خير وشر وأُلقي سائره فذلك قوله تعالى: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] ".
أخي في الله: كم كان الصالحون يحرصون على إحصاء ساعات الليل والنهار وكم كانوا يشفقون أن ترفع لهم أعمال سيئة، فوا حسرة أهل الدنيا عندما فاتتهم هذه اللذة، لقد كان إبراهيم النخعي يبكي إلى إمرأته يوم الخميس وتبكي إليه ويقول: "اليوم تعرض أعمالنا على الله عز وجل" وكان الضحاك يبكي آخر النهار ويقول:" لا أدري ما رُفع من عملي، يا من عمله معروض على من يعلم السر وأخفى لا تبهرج فإن الناقد بصير".
قال الإمام ابن القيم: "إضاعة الوقت أشد من الموت لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها". وقال أيضاً رحمه الله: "أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها".
أخي المسلم: هل فكرت يوماً وأنت تحاسب نفسك كم صعد لك من الأعمال الصالحة؟ من صلاة وصيام وصدقة وقراءه للقرآن وذكر لله تعالى، إنها الأيام تمر وإنه العمر ينقضي قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن عمله فيم فعل؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه» [رواه الترمذي].
أخي المسلم: هو عمرك فلا تقضه إلا في الطاعات حتى يأتيك الموت قال الحسن البصري رحمه الله: "إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت ثم قرأ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]".
أخي: كم مضى عليك من السنين؟ كم عمرت من العمر؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعذر الله إلى امرىء أخر أجله حتى بلغ ستين سنة» [رواه البخاري]. وعن وهيب بن الورد قال: "إن لله ملكاً ينادي في السماء كل يوم وليلة أبناء الخمسين زرع دنا حصاده أبناء الستين هلموا إلى الحساب أبناء السبعين ماذا قدمتم؟ وماذا أخرتم؟ أبناء الثمانين لا عذر".
عزيزي: كم من العمر يمضي في غير طاعة الله؟! كم من الساعات تنقضي في اللهو والعبث؟! فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ»[رواه البخاري].
قال الإمام ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون لأن الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل:
يسر الفتى طول السلامة والبقا *** فكيف ترى طول السلامة يَفعَلُ
يُرَدُّ الفتى بعد اعتدال وصحة *** ينوء إذا رام القبام ويحمل
وقال الطيبي: "ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للمكلف مثلاً بالتاجر الذي له رأس مال فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ويلزم الصدق والخدق لئلا يغبن فالصحة والمال رأس المال وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان ومجاهدة النفس وعدو الدين ليربح خيري الدنيا والآخرة، وقريب منه قول الله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10]، وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان لئلا يضيع رأس ماله مع الربح".
أخي المسلم: لقد استخلفك الله في الأرض لينظر جهاد المجاهدين في عبادته وطاعته، فيميز بين أوليائه وأعدائه، قال الإمام ابن رجب: "كم لله من لطف وحكمة في إهباط آدم إلى الأرض لولا نزوله لما ظهر جهاد المجاهدين واجتهاد العابدين المجتهدين ولا صدعت زفرات أنفاس التائبين ولا نزلت قطرات دموع المذنبين".
أخي: لقد أفنينا أعمارننا في حب الدنيا والتنافس في الاستزاده منها والتكاثر في إقتناء حطامها {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1-2]، قال الإمام ابن القيم: "وأعرض عن ذكر المكاثر به إرادة لا طلاقة وعمومه وإن كل ما يكاثر به العبد غيره سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده فهو داخل في هذا التكاثر. فالتكاثر في كل شيء من مال أو جاه أو رئاسة أو نسوة أو حديث أو علم ولا سيما إذا لم يحتج إليه والتكاثر في الكتب والتصانيف وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها.. والتكاثر أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره وهذا مذموم إلا فيما يقرب إلى الله".
أخي المسلم: تمر عليك الأشهر سريعة وكل يوم فيها يطلبك بحظه من الطاعة، فإن المسلم لا تمضي عليه ساعة من ساعات عمره إلا وهي مشغولة بطاعة مولاه تعالى، حتى أنه ليمر عليه الصيف فيذكر حال من لا ظل له أو مسكن يؤويه من حر الشمس ولفحها أو من زمهرير الشتاء وقبل هذا كله يذكره الصيف بشدة نار جهنم ويذكره الشتاء بزمهريرها، قال الإمام ابن رجب: "من فضائل الشتاء أنه يذكر بزمهرير جهنم ويوجب الإستعاذة منها".
أخي المسلم: تلك هي حال المؤمنين الصادقين لا تمر عليهم أيام السنة، إلا وهم قد استزادوا من الصالحات وعمروا أوقاتهم بالطاعات وإذا أردت أن تعرف أخي أحوال الصالحين فتعال معي: قدم مسافر فيما مضى على أهله فسروا به وهناك امرأة من الصالحات فبكت وقالت: "ذكرني هذا بقدومه القدوم على الله عز وجل فمن مسرور ومثبور!!".
أرأيت أخي المسلم؟ ما أسعد الصالحين بمعرفة مولاهم، وما أرفع مقامهم بنهلهم من مورد الطاعات ومعين القربات، فوا حسرتاه على قوم فاتتهم هذه اللذات حتى خرجوا من دار الفناء والممات.
ألا إنما التقوى هي العز والكرم *** وحبك للدنيا هو الذل والسَّقَمْ
وليس على عبد تقى تقيصة *** إذا حقق التقوى وإن حاك أو حَجَمْ
أخي المسلم: اغتنم مواسم الطاعات وأيام القربات فلا تفوتنك وأنت لاه غافل يمر عليك شهر شعبان فماذا أديت من الطاعات؟ ويمر عليك شهر رمضان شهر الصبر والقرآن والقيام في أيامه الحسان فماذا أديت فيه من الطاعات؟ وتمر عليك أشهر الحج أيام زيارة المشاعر المعظمة، فما الذي قدمته من القربات؟ وهل سكبت الدموع هنالك ونثرت بين يدي مولاك الحاجات؟ قال الأمام ابن رجب: "هذه الشهور والأعوام والليالي والأيام كلها مقادير للآجال ومواقيت للأعمال ثم تنقضي سريعاً وتمضي جميعاً والذي أوجدها وابتدعها وخصها بالفضائل وأودعها باق لا يزول ودائم لا يحول هو في جميع الأوقات إله واحد ولأعمال عباده رقيب مشاهد، فسبحان من قلب عباده في اختلاف الأوقات بين وظائف الخدم ليسبغ عليهم فيها فواضل النعم ويعاملهم بنهاية الجود والكرم، لما انقضت الأشهر الثلاثة الكرام التي أولها الشهر الحرام وآخرها شهر الصيام أقبلت بعدها الأشهر الثلاثة أشهر الحج إلى البيت الحرام فكما أن من صام رمضان وقامه غفر له ما تقدم من ذنبه فمن حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه فما يمضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا ولله فيها عليه وظيفة من وظائف الطاعات، فالمؤمن يتقلب بين هذه الوظائف ويتقرب بها إلى مولاه وهو راج خائف. المحب لا يمل من التقرب بالنوافل إلى مولاه ولا يأمل إلا قربه ورضاه، كل وقت يخليه العبد من طاعة مولاه فقد خسره وكل ساعة يغفل فيها عن ذكر الله تكون عليه يوم القيامة ترة، فوا أسفاه على زمان ضاع في غير طاعته وواحسرتاه على وقت فات في غير خدمته".
أخي المسلم: لقد انصرمت السنين وذهبت الشهور والأيام والكثيرون في غيهم وضلالهم، أخي، عجل بالرجوع إلى الله فهو نعم المرجع {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
أخي في الله: الإنابة الإنابة.. التوبة التوبة قبل حلول الأجل وقطع الأمل قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عزوجل يقبل توبة العبد مالم يغرغر» [رواه أحمد والترمذي وابن حبان]، وعن طائفة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز في قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ} [سبأ:54]، قالوا: "طلبوا التوبة حين حيل بينهم وبينها".
ألسنا نرى شهوات النفوس *** تفنى وتبقى علينا الذنوبُ
يخاف على نفسه من يتوبُ *** فكيف يكن حال من لا يتوبُ
قال الفضيل بن عياض رحمه الله لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة، قال له: أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك؟! يوشك أن تبلغ. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال الفضيل: من علم أنه لله عبد وأنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف وإنه مسؤول فليعد للمسألة جواباً. فقال له الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة. قال: وماهي؟ قال: تحسن فيما بقي فيغفر لك ما مضى فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي.
وقال الحسن البصري:" اتق الله يا ابن آدم لا يجتمع عليك خصلتان سكرة الموت وحسرة الفوت".
أخي المسلم: احذر موت الفجأة وصرعة الغفلة، فقد جاء أن بعض المتقدمين سكر ليلة فعاتبته زوجته على ترك الصلاة، فحلف بطلاقها ثلاثاً لا يصلي ثلاثة أيام فاشتد عليه فراق زوجته فاستمر على ترك الصلاة مدة الأيام الثلاثة فمات فيها على حاله وهو مُصر على الخمر تارك للصلاة.
أخي في الله: أعاذني الله وإياك من الخواتم الردية، فابك أخي على نفسك كم نأمل في هذه الدنيا حتى انقطعت بنا الآمال؟! قال بكر المزني: "لا تزال التوبة للعبد مبسوطة مالم تأته الرسل فإذا عاينهم انقطعت المعرفة". فردد معي أخي:
ألا للموت كأس أي كأس *** وأنت لكأسه لابد حاسي
إلى كم والممات إلى قريب *** تُذَكَّرُ بالممات وأنت ناسي
أخي المسلم: تذكر بانقضاء السنين انقضاء الأعمار وبزوال الليل والنهار الدنو من دار القرار وبالحر والبرد جنان ربك والنار.
قد هيأوك لأمر لو فطنت له *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وأخذ الله بقلبي وقلبك إلى سبل المراضي وآمنني وإياك يوم ينادي المنادي.
دار ابن خزيمة
جزاكـ الله خير
والله يعطيكِ العافية