إنها الحياة المليئة بالمفردات ، الحزن والفرح ، الحياة والموت ، العذب والمالح ، الأسود والأبيض ، … الخ .في عمق هذه المفردات يعيش الإنسان حياته ، وما يكتنفها من غموض كمن يتخبط في ظلمة الليل ، أو ما تتسم به من وضوح كوضوح الشمس ، وحين يعيش أجواء السعادة يشعر بنشوة وانتصار تمده بدفءٍ ليته لم ينسلّ منه ، هكذا هو الإنسان أحيانا يظن بإمكانه البقاء على وتيرة واحدة وهذا المحال بعينه " فدوام الحال من المحال " ولذا نرى أنفسنا في كثير من الأحيان لم نضع في تصورنا كما أننا قد سعدنا ، ربما تأتينا فترة حزن نعيشها مع أنفسنا أو مع الآخرين . وأكثر ما ينبغي من الإنسان ، أن ينظر إلى الأمور بمنظار الأمل مهما اعترته من خطوب أو أثرت عليه نوائب دهره ؛ لأن غده ربما يكون أفضل من أمسه .
***
إلاّ أننا نرى أن هناك من يتخذ من الحزن ملجأ يتوارى خلفه خشية المواجهات أو الصدمات التي تجره إلى حزن أعمق أو غرفة حزن مظلمة . فمن منا عاهده دهره أن يكون له طواعية كيفما يشاء ووفق ما يتمنى ، وتسير شؤون حياته على ضوء ما يحب ويشتهي ، وإن كان قد حدث واتخذ منه عهدا فجدير به إذًا أن يطلق للنفس في سبيل الحزن عنانها كلما فاته مأرب أو استعصى عليه آخر ، أو اشتدّ به كرب وضاقت به السبل . فالحياة مدرسة بما بها من أحداث مترامية الأطراف ، والأيام فيها تأخذ وترد ، تعطي وتمنع ، وأنى ينام لها جفن ؛ حتى تكر راجعة تسترد ما أعطت ، وتقوّض ما تعودت أن تهب ، وهذا الحال على جميع أبناء آدم ، والأمر الذي يختلف أن هناك من يتقبل الأمر والحدث الذي يتعرض له بروح مؤمنة ويعرف أن الذي حدث لم يكن ليحدث لولا أن الأقدار شاءت أن يحدث وعليه أن يعتبر ذلك ابتلاء له واختبارا ليرى أيصبر ويكن من الشاكرين في السراء والصابرين في الضراء ( عجبا لأمر المؤمن كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) أم يصيبه جزع وذعر فلا تجتمع أوصاله ثانية ، لنجده يمتعض لما يتعرض له امتعاضا شديدا وتسمع زفراته حتى تكاد تخترق جدار قلبه ، فيتحرك ساكنه ، وتضطرب أعصابه ، فيعيش متبرما ، ساخطا ، ناقما يخاطب من يقابله بلغة الحزن التي أصبحت مطبوعة على صوته فلا يفارقها .
***
نعم الحزن أمرُّ أمرٍ فهو لا بد منه حيث يصاحب الإنسان كالفرح تماما ، ولولا السرور في ساعة الميلاد ما كان البكاء في ساعة الموت ، ولولا فرحة التلاقي ما كانت ترحة الفراق ، إذًا هو أمر مفروغ منه ، علينا أن نتأقلم معه فلا نغلق على أنفسنا وننهها قبل أوانها ، ونعزلها عن العالم متخذة من حزنها الصاحب والجليس فباتت ترى كل أمر حزنا وتلبس كل ما تراه بعينها وعين الآخرين ثوب الحزن الذي تراه يتجدد دون أن يبلى ..
***
الحزين حزين ؛ ربما لأن نجما زاهرا من الأمل والطموح كان يتراءى له في سماء حياته التي يخطط لها مذ أن وعى وعرف ما الحياة بالنسبة له ، كان ينظر إلى أمله على أنه النور الذي يملأ حياته فيضيئها ، والسرور الذي يطرق باب قلبه فيغمره سعادة ، والبريق الذي يشع من عينيه فيبصر بها ما لا يبصره الآخرون في الليل الحالك ، وما هي إلا برهة تقلب كيانه وتحول كل طموح امتلأت بها مخيلته إلى سراب لا واقع له على خريطة حياته ، لأنه غالى في طموحه ،لذا نجد أنه في المقابل سيغالي في حزنه ، ولو أن ذاك النجم لم يبهره ببريقه لاتقى فجأة أفوله ولأمن وقوع نفسه في فيما لا يريد الوقوع فيه ..
***
نجده يتحدث وكأنه لم يبق في نفسه أدنى شك بما هو مصاب به في حظه من الشقاء ، وعيش الضنك ، وعلقمية الحياة معه ، حيث الهموم والأكدار ، والتي أظنها ما جرّها إليه جرًّا إلا تهالك عقله ، وإقناع نفسه بأنه غير قادر على فعل شيء فاعتادت النفس على ذلك ، وما آل إليه ما هو إلا ضرب من ضروب الفهم الباطل ، ونزعة من نزعات الشيطان الذي يدعو الإنسان إلى التخاذل ، ثم التقوقع والعزلة والبعد عن الإيمان ( إن الشيطان كان للإنسان عدوًّا مبينا ) . فالإيمانُ الذي يذكره بأن الله سبحانه وتعالى له الأمر من قبل ومن بعد . فأنساه الشيطان قوله تعالى ( واصبر وما صبرك إلا بالله ) ( ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون . أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) .
ينظر ذاك الغارق في الحزن إلى نفسه ، على أنه الوحيد الذي ألم به المصاب دون غيره ، كيف لا ، و يحتل الحزن المساحة الكبيرة من قلبه إن لم يكن معظمها ، وهو جل تفكيره أنه يضم بين جنبيه قلبا به من الهم ما به .. سبحان الله ، لم لا ينظر إلى الحياة بنور الأمل الذي يجب أن ينبض كالقلب الذي يشعره ببقائه على قيد الحياة ، فقد يأتي النور من سواد حالك ، ألا نرى أن البدر لا يطلع إلا إذا شق الليل رداءه ، والفجر لا يتهادى إلا من مهد الظلام .
***
إننا أحياء بالآمال وإن كانت لا تتحقق ، ونسعد بالآماني وإن كانت بعيدة المنال ، وطموحنا لن يتوقف مهما كانت الصعاب مادام فينا قلب ينبض ، وعقل يفكر ..
وليست حياة الناس إلا أمانيا … إذا هي ضاعت فالحياة على الأثر
إن النظرة إلى الأمور من حول الشخص لها دور في خروجه من حزنه وسجنه لنفسه ومعاقبته لها ، فلا تثنيه طعنة أحدهم ، ولا تثبط هممه همجية آخر ، ولا تعجزه هتافات عقل فارغ ، ولا تخيفه عضلات باطنها هش ، وعليه أن يرى من يتعامل معهم على أن منهم محبون للخير ، وعليه أن يرى في الجمال جوهره وفي الخير حسنه ، وليبصر إلى أمامه قليلا فهناك نفوس مثقلة بثمار الخير تنتظر رفاقا تشاركها تلك الثمار .
يا نفس ما العيش سوى … ليل إذا جن انتهى
بالفجر والفجر يدوم .
***
إلى كل غارق في الحزن … أن يتذكر أن الإنسان بطبعه عالي الهمة طموحا إلى المعالي ، محبا للذكر الذي يقوي من قلبه ويثبته فينطلق لا يرده كيد حاسد ، ولا يغرقه جاهل في جهله ، ولا يغويه فاسق بفسقه ، ألا فخفض من حزنك وكفكف دمعك فما أنت بأول هدف أصابه سهم الزمان ، إنك بموقف عابر فاجعل منه مصباحا يضيء حياتك ، ويكفيك العيش المرّ الذي ألزمته نفسك فإنّك ما إن سقيتها من كأس السجّان الهم الطويلَ الذي وسم عليها الكآبة حتى بلغت بها من الهم والحزن أي مبلغ . فليس كل أمر كما تحب وتشتهي ، لذا لا تجعل لليأس سبيلا إلى نفسك فتبقيها في خندق حتى الموت ، فلعل ما خسرته في أمسك تعوضه في غدك ، وامض كالواثق إلى هدفه ولا تلتفت إلى ما وراءك إلا إن كان وقوفا لتصويب يعدّ انطلاقة لبداية أفضل ، فالإنسان عليه أن يعتق نفسه من الأوهام التي يمكن أن تسيطر عليها عندئذ يعرف قيمة ما صنعه بعد إعتاقها وتحررها ، فحزن النفس ما هو إلا هم كقبرٍ مخيف يجعلها تقطن في عالم غير الذي نعيشه ..
ليس حزن النفس إلا … ظل وهم لا يدوم .
فالسعداء في هذه الحياة من إذا وافتهم النعمة تنكروا لها ، ونظروا إليها نظرة المستريب بها ، وترقبوا في كل ساعة زوالها ، وفناءها ، فإن بقيت في يدهم فذاك ، وإلا فقد أعدّوا لفراقها عدتهم من قبل دون أن تترك أثرا عليهم ، فمن فقد وظيفة فليتأكد أن في فقدها خيرا ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ومن لم يوفق في مهمة ما ، ومن تأخر عن الذهاب إلى مكان ما ، قد يكون في تأخيره خيرا كثيرا وهكذا …
فاصمدي يا قلوب ، واجتمعي يا مشاعر في ربيع القلوب ، واتحدي يا نفوس على ألا تنحني ( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) . فانفضوا غبار الحزن من تلك القلوب قبل أن تصدأ ، وجددوها بذكر الله وقراءة القرآن ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) .