> العنوان : المريضة التي عالجتني..!
>
>
>
>
> الكاتب : ندى اليوسفي
>
>قالت لي والدمعة تسبق كلماتها: وكأنّ الله قد أمرضها لتهديني..!، قلتُ:
>الهداية بيدِ الإله أخية، قالت: في الوقت الذي كانت فيه تتألّم، ويرتفع ضغطها
>ويهبط فجأة؛ كانت كل قطعةٍ فيّ تضطرب، يصلُ الرعب مني منتهاه، يهبط ضغطي
>ويصعد، وتحمرّ منّي العينين، أضطّربُ في الممرّ، كنتُ حديثة عهدٍ بتمريض
>الحالات المزمِنَة.
>
>كانت تدهشني نظراتها الدافئة من خلف قناع الأكسجين، كلها اطمئنان، لا أذكر
>أنني سمعتها تتألّم بصوتٍ مرتفع، كل ما أتذكّرهُ من صورتها كيف كانت تربتُ
>على يدي بحنو كلما أحسَّتْ فيها اضطراباً وأنا أحاول تعديل أي من الأنابيب
>الداخلة والخارجة من جسمها، وكيف كانت تتحامَل على نفسها لتذهب للمتَوَضَّأ
>مرتكزَةً على الإطار الحامل ذي العجلات، طالبةً منّي أن أساعدها في سحب قاعدة
>المغذّي في الممَرّ، ولا تطمئن إلا إذا تأكّدت من أدائنا الصلاة.
>
>كان يزدادُ تعجّبي عندما أراها تذكّرني وتذكّر زميلاتي بإغلاق الستائر على
>المريضات الأخريات عند مرور الفريق الطبي في جولتهِ الصباحية على المرضى، لا
>أنسى كيف كانت تحرص على أن تكون مستيقظة قبل الجولة الصباحية للأطباء حتى
>تتمكّن من سترِ نفسها جيداً.
>
>ما أحضر لها الزوّار شيئاً ولا أهدوها أمراً؛ إلا وأشركت فيه جميع العاملين
>في الجناح، كانت تتلطّف معنا في العبارة مهما أخطأنا أو أتينا بما لا يسرّ،
>أكره ما كانت تكره أن نفتح التلفاز في الجناح، وكانت تخفض صوت إذاعة القرآن
>حتى لا تُزعج من حولها من مريضات نائمات.
>
>نما شعورٌ غريبٌ في قلبي تجاهها، أحسستُ نحوها بالحبّ، وجهٌ يشعّ منه الصدق،
>وقلبٌ يسع الكل، ولسانٌ لم أسمع منه إلا ذكر الرب، كلما هممتُ بأمر تذكّرتُ
>ابتسامتها الحانية وهي تذكّرني بالبسملة قبل أن آخذ منها العيّنة، وكلما
>مررتُ بذلك الباب، باب حجرتها، تذكّرت ذلك المشهد الأخير، في يوم العملية
>الجراحية التي كانت مقرّرة لها.
>
>كانت على السرير، وكنّا نقطع الجناح، ونعبر الممرّ، لنذهب إلى المصعد، حتى
>ننزل لغرفة العمليات، كانت تشد يدي، وتسألني بالله أن أتأكّد أن كل جسمها
>مغطىً ولا يظهر منها شيء، كانت تردّد: "اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي".
>
>كان هذا آخر عهدي بها، بعدها لم تعد إلى الجناح، أظلمت الدنيا في عيني، وكأنّ
>قطعةً من جسدي فُصِلَت، وكأن ألف لترِ دمٍ من طُحالي ونخاع عظمي سُحِب. جاء
>ابنها في الغد ليأخذ متعلّقات والدته من حجرتها، علاماتُ الحزن عليه ظاهرة،
>ساعدناهُ في جمع متعلّقاتها، ومازالت آياتُ الفجيعة عليّ بادية، انكفأتُ
>باكية وأنا أضع في الحقيبةِ مذياعها الطيب.
>
>ولمّا كان من الغد، عادَ ابنها من جديد، وخلفهُ مرافق، يحملون كراتين كثيرة،
>وأكياس، يضعها أمامنا في قاعدة التمريض، يقول: هذه لكم، من الوالدة، قبل أيام
>أوصت أن نجهّزها لكم لتعطيكم إياها، وهاهي قد ماتت رحمها الله، وأمانتها لكم
>قد وصلت.
>
>كانت هدايا رائعة، تحف صغيرة راقية، مع رسالة رقيقة مذيّلة باسمها تشكرنا
>فيها على حُسن عنايتنا بها وبالمرضى، ومعها كتيبات وأشرطة دعوية باللغة
>العربية وأخرى بلغات زميلاتي.
>
>على الرغم من امتلاء جناحنا بهذه الكتب والأشرطة والمجلات الإسلامية، التي
>يحضرها مرضانا للأجنحة والعيادات؛ إلا أننا لم نسمعها، ولا أدري ما الذي
>جذبنا لنسمع هذه بالذات، ونقرأ تلك بالتحديد، ربما احتراماً لهذه المرأة
>الحديدية، التي تغلّبَت على آلامها، و حافظت رغم قسوة ظروفها الصحية على فروض
>دينها، و أطفأت تعبنا وعملنا الشاق بابتسامة حانية ومعاملةٍ حسنةٍ طيبة.
>
>أحببتُ الاستقامة من خلالها، أحببتُ البشاشة في تعاملها، أحببتُ صبرها
>وثباتها، أحببتُ سترها وعفافها، أعترف، كنتُ لا أحرص على حجابي، وكنتُ أتباسط
>كثيراً في حديثي مع بعض الزملاء، كنتُ أجمع الصلوات وأؤخّرها، وأحياناً كثيرة
>أغضب ممن ينصحني وألقي ما يعطيني من شريطٍ أو كتاب.
>
>كنتُ أستحي من نفسي أمامها، وأخجل من ضآلتي أمام صبرها والتزامها، في أسابيع
>مُكثها معنا تحوّلت همّتي إلى همّةٍ أخرى، إلى عزيمةٍ وعمل، كنتُ أتمنّى أن
>أبشرها، وتفرح عينها بعودتي إلى الحق. لكن حين جاءني خبر توقّف قلبها؛ حلّقتُ
>في أفق الخشوع وقد شرَقْتُ بدمعتي، وتركتُ أوصالي يجول بها ارتعاد الخشيةِ،
>وبدأتُ أبكي مثل طفلٍ خائفٍ في الظلمةِ، كأنّي بها أمامي…..، وسكتَت
>محدّثتي.
>
>ما أعظم هذا الدين..!، حتى المريض وجد مكاناً له بين الدُعاة، نعم، المريض
>الداعية، بابتسامته، ببشاشته، بصبره، وتحمّله، بتذكيره، ووعظه، كل السلف
>وأفراد الأمّة الصالحين الأُوَل كانوا دعاةً في المرض، وعلى فراش الموت.
>ما أعظم هذا الدين..!، في أحلك الظروف وأصعب المواقف، ومهما كانت حالة
>الإنسان، فإنه لا يمكن أن يشعر بالضعف أبداً، لا يمكن أن يشعر بقلة أهميته،
>بأنه عالة على المجتمع.
>
>ما أعظم هذا الدين..!، حتى المريض، حتى العاجز والضرير، حتى الأصم والأبكم
>والكسير، يمكنه أداء هذه الوظيفة. وظيفة لا تعرف توقيعاً للحضور ولا الغياب،
>لا تعرف مكافأةً ولا ترقيةً دنيوية، لا تعرف ليلاً أو نهار، لا تعرف مناوبَة
>ولا استلام، لا تعرفُ سليماً أو ضرير، وظيفة تُشعر المرء بالسمو، بالعلو،
>بالسعادة، وبالتوازن في الحياة.
>
>ما أعظم هذا الدين..!، هذه الوظيفة، وظيفة الدعوة إلى الله، في كل مكان، وأي
>زمان، وعلى أيّ حال، بكلامٍ أو بصمت، في غربٍ أو شرق، في مستشفاً أو سوق، في
>مدرسة أو بيت، في وزارة أو حتى طائرة وسيّارة.
>
>ما أعظم هذا الدين..!، إنها دعوة لا تعرف الحدود، إنها دعوة بلا حدود، صاحبها
>ذلك المسلم الموحّد، الذي يملك جناناً متقداً بحب الخير، وحماسة للعمل لهذا
>الدين لا حدود لها.
>
>ما أعظم هذا الدين..!، وما أكسل البعض أمام هذه الوظيفة الشاغرة، وما أعجزه
>
>
>
>
> الكاتب : ندى اليوسفي
>
>قالت لي والدمعة تسبق كلماتها: وكأنّ الله قد أمرضها لتهديني..!، قلتُ:
>الهداية بيدِ الإله أخية، قالت: في الوقت الذي كانت فيه تتألّم، ويرتفع ضغطها
>ويهبط فجأة؛ كانت كل قطعةٍ فيّ تضطرب، يصلُ الرعب مني منتهاه، يهبط ضغطي
>ويصعد، وتحمرّ منّي العينين، أضطّربُ في الممرّ، كنتُ حديثة عهدٍ بتمريض
>الحالات المزمِنَة.
>
>كانت تدهشني نظراتها الدافئة من خلف قناع الأكسجين، كلها اطمئنان، لا أذكر
>أنني سمعتها تتألّم بصوتٍ مرتفع، كل ما أتذكّرهُ من صورتها كيف كانت تربتُ
>على يدي بحنو كلما أحسَّتْ فيها اضطراباً وأنا أحاول تعديل أي من الأنابيب
>الداخلة والخارجة من جسمها، وكيف كانت تتحامَل على نفسها لتذهب للمتَوَضَّأ
>مرتكزَةً على الإطار الحامل ذي العجلات، طالبةً منّي أن أساعدها في سحب قاعدة
>المغذّي في الممَرّ، ولا تطمئن إلا إذا تأكّدت من أدائنا الصلاة.
>
>كان يزدادُ تعجّبي عندما أراها تذكّرني وتذكّر زميلاتي بإغلاق الستائر على
>المريضات الأخريات عند مرور الفريق الطبي في جولتهِ الصباحية على المرضى، لا
>أنسى كيف كانت تحرص على أن تكون مستيقظة قبل الجولة الصباحية للأطباء حتى
>تتمكّن من سترِ نفسها جيداً.
>
>ما أحضر لها الزوّار شيئاً ولا أهدوها أمراً؛ إلا وأشركت فيه جميع العاملين
>في الجناح، كانت تتلطّف معنا في العبارة مهما أخطأنا أو أتينا بما لا يسرّ،
>أكره ما كانت تكره أن نفتح التلفاز في الجناح، وكانت تخفض صوت إذاعة القرآن
>حتى لا تُزعج من حولها من مريضات نائمات.
>
>نما شعورٌ غريبٌ في قلبي تجاهها، أحسستُ نحوها بالحبّ، وجهٌ يشعّ منه الصدق،
>وقلبٌ يسع الكل، ولسانٌ لم أسمع منه إلا ذكر الرب، كلما هممتُ بأمر تذكّرتُ
>ابتسامتها الحانية وهي تذكّرني بالبسملة قبل أن آخذ منها العيّنة، وكلما
>مررتُ بذلك الباب، باب حجرتها، تذكّرت ذلك المشهد الأخير، في يوم العملية
>الجراحية التي كانت مقرّرة لها.
>
>كانت على السرير، وكنّا نقطع الجناح، ونعبر الممرّ، لنذهب إلى المصعد، حتى
>ننزل لغرفة العمليات، كانت تشد يدي، وتسألني بالله أن أتأكّد أن كل جسمها
>مغطىً ولا يظهر منها شيء، كانت تردّد: "اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي".
>
>كان هذا آخر عهدي بها، بعدها لم تعد إلى الجناح، أظلمت الدنيا في عيني، وكأنّ
>قطعةً من جسدي فُصِلَت، وكأن ألف لترِ دمٍ من طُحالي ونخاع عظمي سُحِب. جاء
>ابنها في الغد ليأخذ متعلّقات والدته من حجرتها، علاماتُ الحزن عليه ظاهرة،
>ساعدناهُ في جمع متعلّقاتها، ومازالت آياتُ الفجيعة عليّ بادية، انكفأتُ
>باكية وأنا أضع في الحقيبةِ مذياعها الطيب.
>
>ولمّا كان من الغد، عادَ ابنها من جديد، وخلفهُ مرافق، يحملون كراتين كثيرة،
>وأكياس، يضعها أمامنا في قاعدة التمريض، يقول: هذه لكم، من الوالدة، قبل أيام
>أوصت أن نجهّزها لكم لتعطيكم إياها، وهاهي قد ماتت رحمها الله، وأمانتها لكم
>قد وصلت.
>
>كانت هدايا رائعة، تحف صغيرة راقية، مع رسالة رقيقة مذيّلة باسمها تشكرنا
>فيها على حُسن عنايتنا بها وبالمرضى، ومعها كتيبات وأشرطة دعوية باللغة
>العربية وأخرى بلغات زميلاتي.
>
>على الرغم من امتلاء جناحنا بهذه الكتب والأشرطة والمجلات الإسلامية، التي
>يحضرها مرضانا للأجنحة والعيادات؛ إلا أننا لم نسمعها، ولا أدري ما الذي
>جذبنا لنسمع هذه بالذات، ونقرأ تلك بالتحديد، ربما احتراماً لهذه المرأة
>الحديدية، التي تغلّبَت على آلامها، و حافظت رغم قسوة ظروفها الصحية على فروض
>دينها، و أطفأت تعبنا وعملنا الشاق بابتسامة حانية ومعاملةٍ حسنةٍ طيبة.
>
>أحببتُ الاستقامة من خلالها، أحببتُ البشاشة في تعاملها، أحببتُ صبرها
>وثباتها، أحببتُ سترها وعفافها، أعترف، كنتُ لا أحرص على حجابي، وكنتُ أتباسط
>كثيراً في حديثي مع بعض الزملاء، كنتُ أجمع الصلوات وأؤخّرها، وأحياناً كثيرة
>أغضب ممن ينصحني وألقي ما يعطيني من شريطٍ أو كتاب.
>
>كنتُ أستحي من نفسي أمامها، وأخجل من ضآلتي أمام صبرها والتزامها، في أسابيع
>مُكثها معنا تحوّلت همّتي إلى همّةٍ أخرى، إلى عزيمةٍ وعمل، كنتُ أتمنّى أن
>أبشرها، وتفرح عينها بعودتي إلى الحق. لكن حين جاءني خبر توقّف قلبها؛ حلّقتُ
>في أفق الخشوع وقد شرَقْتُ بدمعتي، وتركتُ أوصالي يجول بها ارتعاد الخشيةِ،
>وبدأتُ أبكي مثل طفلٍ خائفٍ في الظلمةِ، كأنّي بها أمامي…..، وسكتَت
>محدّثتي.
>
>ما أعظم هذا الدين..!، حتى المريض وجد مكاناً له بين الدُعاة، نعم، المريض
>الداعية، بابتسامته، ببشاشته، بصبره، وتحمّله، بتذكيره، ووعظه، كل السلف
>وأفراد الأمّة الصالحين الأُوَل كانوا دعاةً في المرض، وعلى فراش الموت.
>ما أعظم هذا الدين..!، في أحلك الظروف وأصعب المواقف، ومهما كانت حالة
>الإنسان، فإنه لا يمكن أن يشعر بالضعف أبداً، لا يمكن أن يشعر بقلة أهميته،
>بأنه عالة على المجتمع.
>
>ما أعظم هذا الدين..!، حتى المريض، حتى العاجز والضرير، حتى الأصم والأبكم
>والكسير، يمكنه أداء هذه الوظيفة. وظيفة لا تعرف توقيعاً للحضور ولا الغياب،
>لا تعرف مكافأةً ولا ترقيةً دنيوية، لا تعرف ليلاً أو نهار، لا تعرف مناوبَة
>ولا استلام، لا تعرفُ سليماً أو ضرير، وظيفة تُشعر المرء بالسمو، بالعلو،
>بالسعادة، وبالتوازن في الحياة.
>
>ما أعظم هذا الدين..!، هذه الوظيفة، وظيفة الدعوة إلى الله، في كل مكان، وأي
>زمان، وعلى أيّ حال، بكلامٍ أو بصمت، في غربٍ أو شرق، في مستشفاً أو سوق، في
>مدرسة أو بيت، في وزارة أو حتى طائرة وسيّارة.
>
>ما أعظم هذا الدين..!، إنها دعوة لا تعرف الحدود، إنها دعوة بلا حدود، صاحبها
>ذلك المسلم الموحّد، الذي يملك جناناً متقداً بحب الخير، وحماسة للعمل لهذا
>الدين لا حدود لها.
>
>ما أعظم هذا الدين..!، وما أكسل البعض أمام هذه الوظيفة الشاغرة، وما أعجزه
>عن تحقيق خيريته المكفولة بأمرنا بكل معروف ونهينا عن كل منكر، وما أعجب حال
>من يدعون قلة علمهم الشرعي أو بعض المخالفات التي يحملونها عائقاً لهم عن سلك
>هذا الطريق.
>
>ما أعظم هذا الدين..!، وعد بالحسنى والزيادة، (( للذين أحسنوا الحسنى
>وزيادة))، والإحسان في القدوة أعظم وسيلة دعوية صامتة ومتحدثة، قائمة وقاعدة،
>ساكنة ومتحركة، يطيقها الصحيح والمريض، فعجباً لمن عجز عن استغلالها..؟!!
>
>____________________
>ندى بنت عبدالعزيز محمد اليوسفي
>نُشِرَ بمجلة المتميزة-عدد جماد الأول 1445هـ
>منتدى لها اون لاين
>
>منقول من موقع طريق التوبة
>
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاك الله خير وبارك فيك
على المشاركة القيمة والمميزة
جعلها الله في ميزان حسناتك
ننتظر منك المزيد