تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » ايها الحاج ماذا بعد حجك

ايها الحاج ماذا بعد حجك 2024.

  • بواسطة




الحمد لله وكفى، وصلاة وسلام على عبده المصطفى، وبعد:
يتوجه الحجاج إلى

بيت الله الحرام ليعودوا بميلاد جديد، وذنب مغفور، وسعي مشكور وعمل متقبل، وحج مبرور والذي جزاؤه الجنة. فالكل يقصد مكة لأداء المناسك، ولإرضاء الله تعالى، وتأدية الفريضة، وتحقيق الركن الخامس من أركان الإسلام، ويتحمل الحجاج الصعاب في سبيل تحقيق ذلك، فيصبرون على المشاق، ويتجاوزون الصعوبات، ويتغلبون على المنغصات، ويبذلون النفقات، ويدخرون الأموال، ولا يبخلون بالمصروفات على هذه الرحلة المباركة، ويستعدون بكل ما يستطيعون، ويتزودون بالتقوى.
فهل بعد أداء الحج، وبعد أن يعود الحاج بميلاد جديد، وصفحات خالية من الذنوب، ويرجع بسجلات بيضاء جديدة خالية من المعاصي، وبعد أن سطر صفحات نظيفة.. هل يعود للمعصية؟ فكيف يحافظ الحجاج إذن على هذا الميلاد الجديد؟

وهل من العقل بعد تقديم كل هذه التضحيات، أن يعود الحجاج لما كانوا عليه من انغماس في الدنيا وملذاتها؟! أم يجتهدوا للحفاظ على هذه الصفحات المشرقة، ويستمروا في طريق الهداية، ويبتعدوا عن طرق الغواية؟! فكيف يلازم الحجاج التقوى؟ وكيف يستمرون على طريق الاستقامة؟ فمع هذه التذكرة وتلك الوقفات..
الوقفة الأولى: على كل من أكرمه الله تعالى بالحج هذا العام؛ أن يشكر المولى سبحانه وتعالى أن وفَّقه على إتمام هذه الطاعة، وأن مكنه من أداء هذه الفريضة المباركة {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
الوقفة الثانية: واظبنا في رحلة الحج على كثرة الذكر، والاستغفار، والدعاء والتضرع إلى الله، فهل نستمر نستشعر حاجاتنا وفقرنا إلى الله تعالى، ونسأله دائمًا وندعوه، ونتذلل بين يديه؟ قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]. فإن الدعاء مأمور به موعود عليه بالإجابة، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
وهل نستمر في الإكثار من ذكر الله تعالى، بعد ما علمنا أثره في اطمئنان القلب وسكون الروح، والتحصن من الشيطان؟ قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
وهل نلازم الاستغفار وقد تأكدنا من آثاره؟ قال الله تعالى عن آثار الاستغفار في سورة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12]. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه لَيُغَانُ على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"[1]. وقد ورد في حديث أنس أهم الأسباب التي يغفر الله عز وجل بها الذنوب، فقال صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة"[2].
الوقفة الثالثة: رحلة الحج، تأكدنا فيها أنها لم تكن رحلة عادية، أو نزهة ترفيهية، بل دورة تربوية، أو رحلة إيمانية جهادية؛ حاولنا فيها التخلص من الذنوب الماضية، والتحلل من المظالم، والعودة بحج مبرور، وبميلاد جديد؛ ففي الحديث الشريف: "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"[3]. فالحج يعتبر نقطة تحول، وانطلاقة جدية نحو الأفضل، وتغيير في سلوكياتنا وأخلاقنا ومعتقداتنا وفي كل حياتنا، فهل نتغير إلى الأفضل؟ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
الوقفة الرابعة: شعرنا بحلاوة الإيمان، ولذة الطاعة، وعرفنا قيمة القرب من الله، وسلكنا طريق الهداية، فهل نستمر على الاستقامة بعد هذه الطاعات، ونبتعد عن طريق الغواية؟ قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]. وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]. وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13، 14].
الوقفة الخامسة: تهيَّأنا لفريضة الحج بالمال الحلال، وأطبنا المطعم والملبس، وشعرنا بركة التمسك بالحلال، فهل نتمسك به في سائر الأيام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]. وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ. وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ"[4].
الوقفة السادسة: خرجنا في رحلة الحج الإيمانية التي تذكرنا بالموت وكربته، والقبر وظلمته، واليوم الآخر وشدته، خاصة عندما نتجرد من الملابس ونغتسل للإحرام، فهل نتذكر هذه الأمور دائمًا؟ فهي من العوامل التي تدفع للتمسك على طريق الحق والثبات على طريق الهداية، والحرص على فعل الطاعات، والبعد عن المحرمات، والثبات حتى الممات، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. ومن أراد الثبات على طريق الطاعة فليصاحب الأخيار دائمًا، وليحرص على مجالسة الصالحين وحضور المحاضرات النافعة، والدروس الوعظية المفيدة، وليذكر نفسه دائمًا بالأمور التي ترقق القلب، وتذكر بالموت، فيزور المقابر ويعود المرضى، ويتعظ بالحوادث التي تخطف الأرواح فجأة.
الوقفة السابعة: تذكرنا الأنبياء الكرام، واتبعنا سُنَّة أبي الأنبياء خليل الرحمن، الذي رفع شعار التوحيد، وعلمنا الإخلاص وتمسكنا في الحج بإخلاص العمل لله، واتباع سُنَّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حتى تكون أعمالنا مقبولة، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"[5]. فلماذا لا نستمر على التمسك بالسنة دائمًا؟ قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى". قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"[6].
الوقفة الثامنة: حرصنا قبل الحج على التوبة، ورد المظالم إلى أهلها وإرجاع الحقوق لأصحابها، والتوبة مطلوبة قبل الحج وبعده، قال تعالى: {وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
والحاج يحرص على تجديد التوبة قبل الحج؛ لأنه يرجو أن يعود مغفورًا له كيوم ولدته أمه؛ فينبغي له أن يستمر بعد الحج في مجاهدة نفسه ومحاربة هواه والشيطان، والإقلاع عن الذنوب، والندم على ما فات، والعزم الصادق على عدم العودة إلى الذنوب مرة أخرى، وإن عاد فباب التوبة مفتوح، ولكن علينا بالمبادرة بالأعمال الصالحة وتجنب المنكرات قبل أن يخطفنا الموت، فهو يأتي بغتة والعمل الصالح هو الذي ينفع الإنسان يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أذكِّر الجميع بحديث الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم والذي يتناول حال المسلم الذي يتوب ويعود للمعصية، أو قد يتوب ثم يضعف ويعود للذنوب، وقد ينوي أو يعزم عزمًا صادقًا على عدم الوقوع في الذنب، ثم يعود.. هل هذا يعني عدم الوقوع في الذنب؛ بحيث متى عاد إلى الذنب بطلت توبته؟
فالمطلوب من العبد أن يعزم عزمًا أكيدًا، وأن يصر إصرارًا جازمًا على عدم العودة إلى الذنب، فمتى فعل ذلك صحت توبته وقبلت. ثم لأنه إنسان ضعيف ويتعرض للفتن، فقد يقع مرة أخرى وتضعف إرادته ويستولي عليه الشيطان، ولا ينجح في محاربته؛ فمن أزله الشيطان بعد ذلك فوقع في الذنب مرة أخرى؛ فإنه يحتاج إلى توبة جديدة صادقة، ولا علاقة لهذه التوبة (الثانية) بالتوبة الأولى، وتوبته الأولى صحيحة غير باطلة؛ لحديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، أحدنا يذنب، قال: "يُكتب عليه". قال: ثم يستغفر منه ويتوب. قال: "يُغفر له ويتاب عليه". قال: فيعود فيذنب. قال: "فيُكتب عليه". قال: ثم يستغفر منه ويتوب. قال: "يُغفر له ويتاب عليه، ولا يمل الله حتى تملوا"[7].

والأوضح منه ما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه -عز وجل- قال: "أذنب عبد ذنبًا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي! فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي! فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي! فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. اعمل ما شئت فقد غفرت لك"[8].
الوقفة التاسعة: تزودنا قبل الحج بالتقوى، وجاهدنا أنفسنا وأبعدناها عن المعاصي والرفث، وتركنا الجدال بغير فائدة، وقد أمرنا الله تعالى بهذا، حيث قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
والتقوى لا بد أن تستمر في الحج وبعده، فهل نحاول أن نبتعد عن المحرمات، وأن نجعل بيننا وبين ما حرَّم الله موانع أو حواجز أو وقاية، ويكون ذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي؟ ومن يفعل ذلك يجعل الله له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب.
والتقوى أيضًا هي: الخوف من الجليل سبحانه وتعالى، والعمل بالتنزيل (كتاب الله، وسُنَّة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم)، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. وحتى ننال ثمار التقوى، وهي كثيرة، فعلينا: استشعار معيَّة الله تعالى حيث قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
الوقفة العاشرة: تعلمنا في الحج مجموعة من الدروس والفوائد والعبر، ومن أهم الدروس: درس الاستسلام لله تعالى، وفي ذلك الاقتداء بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل، وأمه السيدة هاجر، فقد تعرضوا لاختبارات ومحن عديدة ونجحوا فيها جميعًا، وواجهوا الشيطان وحاربوه، ولم يسمحوا له بالاستيلاء عليهم أو غوايتهم.
وأهم درس للنساء هو استسلام السيدة هاجر أم إسماعيل لأمر الله تعالى حينما علمت أن زوجها أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام تركها بأمر الله تعالى، فنتعلم منها درس طاعة الزوجة لزوجها، واستسلامها لأمر ربها، فقد أحسنت التوكل على الله، وأيقنت أنها لن تضيع هي وطفلها لما تركها في مكان موحش لا أنيس فيه ولا ونيس، ولا زرع أو ضرع، فقالت بلغة الواثق من قدرة الله تعالى على كل شيء: "إذن لن يضيعنا" بعدما سألت زوجها (إبراهيم) سؤالاً واحدًا: "آلله أمرك بهذا؟". وببركة هذا الاستسلام فجَّر الله في هذا المكان بئر زمزم المبارك، وجعله مكانًا آمنًا، وصارت قلوب الناس تهواه وتحب زيارته.
ونجد أن درس الاستسلام يتكرر من الابن الذي توليت تربيته الأم المستسلمة لأوامر الله، فيطيع إسماعيل أباه -عليهما الصلاة والسلام- فيعلن استسلامه التام في امتحان شاق وشديد، ويسلم نفسه لوالده لما طلب أن يذبحه، والوالد نجح هو الآخر في هذا الاختبار الصعب، ويرجم شيطانه وينفذ الجميع أمر الله، فتأتي المكافأة اللائقة ويظهر النجاح المشرف من أسرة أعلنت استسلامها لأوامر الله تعالى والانقياد له بالذل والطاعة.
ويتكرر الاستسلام من الابن للأب لما أمره بأن يفارق زوجته التي لا تحمد الله ولا تعرف الرضا أو القناعة بعد زيارته للمكان ليتفقد تركته، ثم ينفِّذ الابن البار أمر والده، ويستسلم ويسارع بطاعته مرة ثالثة ورابعة، ويشتركا في رفع القواعد من البيت ليكون مثابة للناس وأمنًا.
المصدر: موقع لها أون لاين.

الحمد لله وحده، والصلاة على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإن من أعظم النعم أن جعلنا الله من أمة خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، فالإسلام ديننا {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، ودستورنا القرآن {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، والقبلة الكعبة {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].
نعم أخي الحبيب، إني أوافقك بأن هذا يستوجب الشكر لله، ولعلِّي بعد شكر المولى عز وجل أن أطرح بين يديك هذه الوصايا لمن عاد من البقاع الطاهرة، والتي أسأل الله أن ينفعنا بها:
1- الشكر لله على إتمام هذه الفريضة المباركة {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
2- ليكن الحج نقطة تحوُّل وتغير في حياتنا {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
3- الناس ترجع من الحج بالهدايا، والأصل أن نرجع بالهداية {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].
4- خرجنا من دورة إيمانية عملية، فالواجب علينا الاستمرارية على ما تعلمناه {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].
5- لا تنس {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
6- كم رفعت يديك داعيًا ربك وخالقك في تلك الأيام الحسان! فلا تنقطع؛ فـ"الدعاء هو العبادة".
7- جميل اتباعك لسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وحرصك عليها، فليكن هذا ديدنك في حياتك كلها "وما زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه…" الحديث.
8- رجعت محسنًا الظن بربك، وقد خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، فلا تطفئ نور قلبك بوحل الذنوب.
9- لعلك عاهدت ربك وخالقك على التوبة، فحذاري من النكوص {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8].
10- إن من أعظم ما يثبتك على الاستقامة الدعوة إلى الله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: 33].
أخي الحاج، بعد أن عدت اسأل نفسك: هل بقي شيء من التعب والنصب؟
لا شك أنك ستجيب لا.. هكذا الحياة الخالية نتعب فيها لله، فيعقبها راحة أبدية في جنات عالية لا تسمع فيها لاغية. نسأل الله تعالى من فضله.
المصدر: موقع صيد الفوائد.

الحمد لله جعل لكل شيء قدرًا، وأحاط بكل شيء خُبرًا، وأسبل على الخلائق رعايتَه سِترًا، أحمده تعالى على نعمائه شكرًا، وأُسلِّمُ لقضائه وقدره صبْرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلَق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصِهرًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله إلى البشرية عُذْرًا ونُذْرًا، فدعا إلى الله سرًّا وجهرًا، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأكرم بهم في نصرة الدين نصرًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وأَدِم لهم أجرًا، أما بعد:
أحبتي الكرام، اتقوا الله فإن تقواه أفضلُ زاد، وأحسنُ عاقبةٍ في معاد، واعلموا أن الدنيا مِضْمَارُ سِباق، سبق قومٌ ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فرحم الله عبدًا نظر فتفكر، وتفكر فاعتبر، وأبصر فصبر، ولا يصبر على الحق إلا من عرف فضله، ورجا عاقبته {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
أحبتي الكرام، في الأيامِ القليلةِ الخاليةِ قضى الحجاجُ عبادةً من أعظم العبادات، وقربةً من أعظم القربات، تجردوا لله من المخيطِ عند الميقات، وهلتْ دموع التوبةِ في صعيد عرفاتٍ على الوجنات، خجلاً من الهفوات والعثرات، وضجتْ بالافتقار إلى الله كلُّ الأصواتِ بجميع اللغات، وازدلفتِ الأرواحُ إلى مزدلفةَ للبَيَات، وزحفتِ الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطوافِ بالكعبة المشرفة، والسعيِ بين الصفا والمروة في رحلةٍ من أروع الرَّحلات، وسياحةٍ من أجمل السياحات، عادَ الحجاج بعد ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضله {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
فإلى كل من حج البيت العتيق، إليك هذه الوقفات من قلب محبٍّ لك شفيق، فأنت والله أعز عليَّ من أخي الشقيق، فتقبلها مني واقبلها من فؤاد تقطع قلبه، وسالت بالعبرة عينه، وإلى أولى هذه الوقفات…
الوقفة الأولى: يا من حج البيت العتيق، وجئت من كل فج عميق، ولبيت من كل طرفٍ سحيق، ها أنت وقد كَمُلَ حجك، وتمَّ تفثُك بعد أن وقفت على هاتيك المشاعر، وأديت تلك الشعائر، ها أنت تتهيأ للرجوع إلى ديارك، احذر كل الحذر من العودة إلى التلوثِ بالمحرمات، والتلفُّع بالمَعَرَّات، والْتِحَافِ المسبَّات {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92]. فإياك إياك أن تهدم ما بنيت، وتُبدد ما جمعت، وتنقض ما أحكمت.
الوقفة الثانية: يا من حج بيت الله الحرام، اشكر الله على ما أولاك، واحمده على ما حباك وأعطاك، تتابع عليك بِرُّه، واتصل خيرُه، وعمَّ عطاؤه، وكمُلت فواضله، وتمت نوافله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]. فظُن بربك كلَّ جميل، وأمِّل كلَ خيرٍ جزيل، وقوِّ رجاءك بالله في قبولِ حجِّك، ومحْوِ ما سلف من ذنوبك، فقد جاء في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قال الله تعالى: أنا عند ظنِ عبدي بي"[1]. فهنيئًا لك حجُّك وعبادتُك واجتهادُك.
الوقفة الثالثة: يا من حج البيت الكريم، لقد فتحت في حياتك صفحةً بيضاء نقية، ولبست بعد حجك ثيابًا طاهرة نقية، فحذار حذار من العودة إلى الأفعال المخزية، والمسالك المردية، والأعمال الشائنة، فما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة! وما أقبح السيئة بعد الحسنة! وإن من قبول العمل الصالح إتباعه بعمل صالح.
الوقفة الرابعة: إن للحج المبرور أمارة، ولقبوله منارة. سُئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما الحج المبرور؟ قال: أن تعودَ زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة. فليكن حجُّك حاجزًا لك عن مواقع الهلكة، ومانعًا لك من المزالقِ المُتلفة، وباعثًا لك إلى المزيد من الخيرات وفعلِ الصالحات. واعلم أن المؤمن ليس له منتهى من صالح العمل إلا حلولُ الأجل، فما أجملَ أن تعود بعد الحج إلى أهلك ووطنك بالخُلُقِ الأكمل، والعقلِ الأرزن، والوقارِ الأرْصَن، والعِرض الأصون، والشِيَمِ المرْضية، والسجايا الكريمة! ما أجملَ أن تعود حَسَنَ المعاملة لقِعادك، كريمَ المعاشرةِ لأولادك، طاهرَ الفؤاد، ناهجًا منهج الحق والعدل والسداد، المُضْمَر منه خيرٌ من المظهر، والخافي أجملُ من البادي! فإن من يعودُ بعد الحج بهذه الصفات الجميلة والسمات الجليلة، فهو حقًّا من استفاد من الحج وأسراره ودروسه وآثاره.
الوقفة الخامسة: الحج بكل مناسكِه وأنساكه يعرِّفك بالله، يذكرك بحقوقه وخصائص ألوهيته جلَّ في علاه، وأنه لا يستحق العبادة سواه، يعرفك ويذكرك بأن الله هو الأحدُ الذي تُسلم النفس إليه، ويوجَّه الوجه إليه، وأنه الصمدُ الذي له وحده تَصْمُد الخلائق في طلب الحاجات، فكيف يهون عليك بعد ذلك أن تصرف حقًّا من حقوق الله من الدعاء والاستعانة والذبح والنذر إلى غيره؟! فأي حجٍّ لمن عاد بعد حجه يفعل شيئًا من ذلك الشرك الصريح والعمل القبيح؟! وأي حج لمن حج ثم يأتي المشعوذين والسحرة ويُصَدِّقُ أصحابَ الأبراج والتنجيمِ وأهلَ الطِيرة، ويتبرك بالأشجار، ويتمسح بالأحجار، ويعلق التمائمَ والحروز؟!..
أين أثرُ الحج فيمن عاد بعد حجه مضيعًا للصلاة، مانعًا للزكاة، آكلاً للربا والرُّشا، متعاطيًا للمخدرات والمسكرات، قاطعًا للأرحام، والغًا في الموبقات والآثام؟! فيا من امتنعتَ عن محظورات الإحرامِ أثناء حج بيت الله الحرام، إن هناكَ محظورات على الدوام، وطولَ الدهر والأعوام، فاحذر إتيانها وقربانها {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].
الوقفة السادسة: من لبى لله في الحج مستجيبًا لندائه، كيف يلبي بعد ذلك لدعوةٍ أو مبدأ أو مذهب أو نداء يُنَاهِض دين الله الذي لا يُقبل من أحدٍ دين سواه؟! من لبَّى لله في الحج كيف يَتحاكم بعد ذلك إلى غير شريعته، أو ينقادَ لغير حكمه، أو يرضى بغير رسالته؟! من لبى لله في الحج فليلبِّ له في كل مكان وزمان بالاستجابة لأمره أنى توجهت رِكائبُه، وحيثُ استقلَّت مضاربه، لا يتردد في ذلك ولا يتخير، ولا يتمَنَّعُ ولا يضجر، وإنما يَذلُّ ويخضع، ويطيع ويسمع.
الوقفة السابعة: يا من غابت عنه شمسُ هذه الأيامِ ولم يَقْضِها إلا في المعاصي والآثام، يا من ذهبتْ عليه مواسمُ الخيرات والرحمات وهو منشغل بالملاهي والمنكرات، أما رأيت قوافلَ الحجاج والمعتمرين والعابدين؟! أما رأيت تجرُّد المحرمين وأكفَّ الراغبين ودموعَ التائبين؟ أما سمعتَ صوت الملبين المكبرين المهللين؟ فما لك قد مرَّت عليك خيرُ أيام الدنيا على الإطلاق وأنت في الهوى قد شُدَّ عليك الوَثاق؟ يا من راح في المعاصي وغدا، يقول: سأتوب اليوم أو غدًا. يا من أصبح قلبه في الهوى مُبددًا، وأمسى بالجهل مُجنَّدًا، وبالشهواتِ محبوسًا مقيدًا، تذكر ليلةً تبيتُ في القبر منفردًا، وبادرِ بالمتاب ما دمت في زمن الإنظار، واستدرك فائتًا قبل أن لا تُقال العِثار، وأقلع عن الذنوب والأوزار، واعلم أن الله يبسط يده بالنهار ليتوبَ مُسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوبَ مسيء النهار.
الوقفة الثامنة: وأنت أنت يا من تقلبتَ في أنواع العبادة، الزم طريقَ الاستقامة، وداوم العمل فلستَ بدار إقامة، واحذر الإِدْلاَءَ والرياء فرُبَّ عملٍ صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية، يقول بعض السلف: من سره أن يَكْمُلَ له عمله فليُحسن نيته. وكن على خوف ووجل من عدم قبول العمل؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]. فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا تُقبل منهم {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]"[2].
الوقفة التاسعة: يا من قصد البيت الحرام، ليكن حجك أول فتوحك، وتباشيرَ فجرك، وإشراقَ صبحك، وبدايةَ مولدك، وعنوانَ صدق إرادتك، تقبل الله حجك وسعيك، وأعاد الله علينا وعليك هذه الأيام المباركة أعوامًا عديدة، وأزمنة مديدة، والأمة الإسلامية في عزة وكرامة، ونصر وتمكين، ورفعة وسؤدد. اللهم تقبل من الحجاج حجهم، اللهم تقبل من الحجاج حجهم وسعيهم، اللهم اجعل حجهم مبرورًا، وسعيهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا. اللهم تقبل مساعيهم وزكها، وارفع درجاتهم وأعلها، وبلِّغهم من الآمال منتهاها، ومن الخيرات أقصاها، اللهم اجعل سفرهم سعيدًا، وعودهم إلى بلادهم حميدًا، اللهم هوِّن عليهم الأسفار، وأمنهم من جميع الأخطار، اللهم احفظهم من كل ما يؤذيهم، وأبعد عنهم كل ما يضنيهم. اللهم واجعل دربهم درب السلامة والأمان، والراحة والاطمئنان، اللهم وأعدهم إلى أوطانهم وأهليهم وذويهم ومحبيهم سالمين غانمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر: موقع صيد الفوائد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.