وقال النعمان بن مالك: يا رسول الله لم تحرمنا الجنة؟ فوالذي لا إله إلا الله لأدخلنها, فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: بم؟ قال: إني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف, فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: صدقت.
وقال عبد الله بن جحش: اللهم إني أسألك أن ألقى العدو غدا, فيقتلوني, ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني وتسألني فيم ذلك فأقول فيك.
وكان هذا رأي الأغلبية الذي عارض رأي الرسول صلى الله عليه وسلم بكل حرية.. ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الرأي ولبس درعه وحمل سلاحه .. فشعر المسلمون الذين ألحوا بالخروج بالندم وقالوا: استكرهنا رسول الله, وعرضوا عليه العودة إلى رأيه الأول .. فأبى وقال: ( ما ينبغي لنبي إذا لبس لامة الحرب أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه).
تعتبر عملية اتخاذ القرار من أصعب العمليات التي تواجه القيادة في مسيرها .. بل إن عملية اتخاذ القرار في حقيقتها هي لب القيادة .. فالقائد الناجح هو الذي ينجح في اتخاذ القرار المناسب من بين البدائل المطروحة, ونحن هنا أمام عملية متفردة في كيفية اتخاذ القرار .. لقد كان أمام المسلمين خياران .. البقاء بالمدينة والتحصن بها ولهذا الخيار حيثياته ودوافعه .. وخيار الخروج لملاقاة العدو ولهذا الخيار أيضا حيثياته ودوافعه .. وكان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قراره في هذا الموقف العصيب.
والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا في هذه الحادثة درسا عظيما في كيفية اتخاذ القرار, لقد اعتمد في اتخاذه لهذا القرار على جمع الحقائق واستخدمها بتفكير منطقي واستشار أصحابه ثم جاء العزم بلا تردد والتنفيذ بلا تراجع ..
وهذه هي آلية اتخاذ القرار عند الرسول صلى الله عليه وسلم:
1)جمع الحقائق
وهي المادة الخام لاتخاذ القرار .. ويتوقف نجاح القرار على وفرة الحقائق ودقة المعلومات .. فكلما توفرت معلومات دقيقة كان القرار أقرب إلى الرشد والصحة.
وقد رأينا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على جمع المعلومات وتحقيقها عن طريق الرسالة التي بعث بها عمه العباس, كما تبين ذلك من إرساله لبعض أصحابه لاستكشاف جيش المشركين ومعرفة مدى التقدم الذي وصلوا إليه في مسيرهم.
ومن بين الحقائق التي توفرت لديه الرؤيا التي رآها وأولها ورؤياه صلى الله عليه وسلم حق.
2)التفكير المنطقي
وهي عملية تذكر الحقائق والحوادث ومعرفة مدى ارتباطها ببعض, وحتى يكون التفكير منطقيا يجب أن يكون دقيقا وواضحا ويخلو من التناقض والتداعي.
وكان للرأيين في مسألة خروج الجيش من المدينة أو البقاء فيها منطقهما فالرأي الأول كان منطقه أن المسلمين أقل عددا وأن البقاء في المدينة به ميزة تشتيت جيش المشركين في أزقة المدينة, وإمكانية مشاركة كل الطاقات بما فيها النساء والشيوخ والأطفال في القتال, كما أن المسلمين أكثر معرفة بطرق المدينة وأزقتها.
وكان منطق الرأي الآخر هو أن المسلمين قد انتصروا في بدر وهم الآن أكثر عددا, وأن المسلمين سيفقدون هيبتهم بين العرب إذا قال المشركون أنهم حصروا المسلمين في المدينة.
ولكلا الرأيين منطقه حسب الحقائق التي يؤمن بها .. ويربط بينها, والطريقة التي يفكر بها, والقابلية العقلية التي يتمتع بها, ولابد من أمر يحسم الخلاف.
3)الشــورى
وهي مبدأ أساسي من مبادئ الإسلام .. وقد رأينا كيف عبر كل فريق من المسلمين بل والمنافقين عن آرائهم بكل حرية وشفافية .. وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم رأي الأغلبية مع أنه كان يدرك أنه رأي خاطئ .. وفي هذا إقرار لمبدأ الشورى وتربية عملية للأمة على هذا المبدأ الذي كان يراه الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أهم من الانتصار في معركة, فلا نبذ لمبدأ الشورى أبدا, حتى بوجود قيادة راشدة, وحتى لو كانت الأمة ناشئة, وحتى لو كانت في ظروف المعركة, وحتى لو استغلها الطابور الخامس.
وهذا يضع الأمة أمام مسئولياتها ويجعلها تتحمل نتائج قراراتها ولا ينبغي للقائد أن يستبد برأيه لأن النتيجة عندها سيتحملها هو وحده أما إذا كان القرار للأمة فهي عندئذ ستتحمل النتائج سواء كانت محزنة أم مفرحة, فمن يملك القرار يتحمل النتائج.
ولا شيء يحفظ للأمة وحدتها وللقائد هيبته أكثر من الشورى, وقد انسحب عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش فيما بعد والجيش في طريقه للمعركة .. وقال أطاعهم وعصاني .. هذا مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمضى رأي الأغلبية فكيف كان الأمر لو أنه أصر على رأيه؟
وماذا كان سيحدث لو أصر الرسول صلى الله عليه وسلم على رأيه وهزم المسلمون؟
صحيح أن هذه أسئلة افتراضية ولكن القائد عليه أن يقلب الأمور من جميع الجوانب وهو يتخذ قراره.
ومع أن الشورى أدت إلى نتيجة سلبية وهي الهزيمة في أحد إلا أن الله سبحانه وتعالى أنزل بعد المعركة الآية الكريمة ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) ( آل عمران :159 )
4)العــزم
إن للمشورة والمناقشة وطرح الآراء أوقاتها, وللتنفيذ والمضي والعمل أوقاتها, وقد أخذ النقاش في المسألة الوقت اللازم واستقر الرأي على الخروج .. فلا ينبغي بعد ذلك العودة للنقاش مرة أخرى والتردد في اتخاذ القرار طالما لم يجد جديد, وإلا تميعت الأمور وتبلبلت الآراء.
لقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الاستمرار في الرأي المتفق عليه هو الأولى حتى وإن كان يعتقد بخطئه وهذا أفضل من التردد في القرار المعتقد بصوابه.
فتخيل حجم الفوضى والبلبلة التي كانت ستحدث لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاد وخلع لامته وقرر البقاء في المدينة !
ماذا سيكون أثر ذلك على وحدة الصف؟
وكيف سيستغل المنافقون والمرجفون هذه الواقعة؟ وكيف ستكون هيبة القائد؟
لقد قرر المسلمون الخروج .. فعليهم أن يخرجوا ويتحملوا النتيجة, أما التردد .. نخرج أو لا نخرج فهذا خطره عظيم ولا يليق بالرجال.
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
ولكن هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخطئا إذ لم يصر على رأيه وهو يتوقع النتيجة؟
لقد كان القرار الصحيح ولا شك هو رأي الرسول صلى الله عليه وسلم بالبقاء في المدينة والتحصن بها .. وهذا هو الدرس الذي استفاد منه المسلمون فيما بعد في غزوة الخندق, ولكن القرار الرشيد أو السديد هو الخروج لملاقاة العدو.
وهنا نشير إلى الفرق بين القرار الرشيد والقرار الصحيح, فليس بالضرورة أن يكون القرار الرشيد صحيحا لا يحتمل الخطأ .. ولكن القرار الرشيد هو أحسن قرار في ظل الظروف القائمة بما يحقق الأهداف المرجوة.
وهذا ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم فاختار القرار المناسب ووضع الأمة أمام مسئولياتها ولا شك في أن النتائج النهائية وما تعلمه المسلمون أهم من الانتصار في معركة.
وما أحوجنا نحن المسلمين في هذا العصر إلى أن نتعلم كيف نتخذ قراراتنا ونتحمل مسئولياتنا..فكم منيت الأمة بخسائر وويلات بسبب قرارات طائشة أو متعجلة لم تأخذ حقها من الدراسة في ظل غياب الشورى وحرية الرأي..ومتى يأتي اليوم الذي تملك فيه الأمة قرارها كما كانت تملكه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
سلامي