فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذبا، أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا، وعن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله، ثم شاء فلان رواه أبو داود بسند صحيح. وجاء عن إبراهيم النخعي: أنه يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله، ثم بك. قال: ويقول: لولا الله، ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان.
هذا باب قول الله -تعالى-: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيه بيان أن هناك ألفاظا، فيها التنديد، والتنديد معناه أن تجعل غير الله ندا له، فيكون التنديد في نسبة النعم إلى غير الله، ويكون التنديد في الحلف بغير الله، ويكون التنديد في قول: ما شاء الله وشاء فلان، وغير ذلك من الألفاظ، فهذا الباب فيه بيان أن التنديد يكون في الألفاظ، والتنديد هنا المراد به التنديد الأصغر الذي هو شرك أصغر في الألفاظ، وليس التنديد الكامل الذي هو الشرك الأكبر وقوله -جل وعلا-: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ هذا عام يشمل اتخاذ الأنداد بالشرك الأكبر، ويشمل -أيضا- اتخاذ الأنداد بأنواع الإشراك، التي دون الشرك الأكبر؛ لأن قوله: "أندادا" هذا يعم جميع أنواع التنديد، والتنديد منه ما هو مخرج من الملة، ومنه ما لا يخرج من الملة؛ ولهذا ساق عن ابن عباس أنه قال: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل، فجعل مما يدخل في هذه الآية الشرك الخفي، أو شرك الألفاظ التي تخفى على كثير من الناس.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة؛ أن حقيقة التوحيد ألا يكون في القلب إلا الله -جل وعلا- وألا يتلفظ بشيء فيه جعل غير الله -جل وعلا- شريكا له، أو ندا له، كمن حلف بغير الله، أو كمن قال: ما شاء الله، وشاء فلان، أو لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ونحو هذه الألفاظ.
الأول: ظاهر، وهو تبع للباب قبله يعني: كلام ابن عباس على الآية، ثم قال في آخره: لا تجعل فيها فلانا، هذا كله به شرك يعني: لا تقل لولا الله وفلان، قل: لولا الله لحصل كذا، هذا هو الأكمل، فالذي ينبغي في استعمال هذه الألفاظ أن تنسب إلى الله، فظهر لنا هنا أن ثمة درجتين جائزتين، وغير ذلك لا يجوز، وهاتان الدرجتان الأولى هي الكاملة، وهي أن يقول: لولا الله لما حصل كذا، والجائز أن يقول: لولا الله، ثم فلان لما حصل كذا هذه جائزة، وهي توحيد لجعله مرتبة فلان نازلة عن مرتبة نعمة الله -جل وعلا- أو إنعام الله، ولكن هذا ليس هو الكمال؛ ولهذا قال ابن عباس هنا: لا تجعل فيها فلانا؛ لأن الكمال أن تقول لولا الله لأتانا اللصوص، لولا نعمة الله لما حصل كذا، لولا فضل الله لما حصل كذا، هذه هي المرتبة الكاملة.
والجواز أن تقول: لولا الله، ثم فلان، وأما الذي لا يجوز، والذي قال فيه ابن عباس: كله به شرك، أن يقول: لولا الله وفلان بالواو؛ لأن الواو تفيد التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، دون تراخ في المرتبة، أما ثم فتفيد التراخي في المرتبة، أو التراخي في الزمن على ما هو معلوم في هذا المبحث في حروف المعاني من النحو.
فلهذا صار قول القائل: لولا الله وفلان شرك، أو ما شاء الله وشاء فلان، أن هذا شرك أصغر.
والواجب أن يقول: لولا الله، أو أن يقول: ما شاء الله وحده، كما سيأتي في باب بعد ذلك، فإذا تحصل لنا أن الكمال أن ينسب ذلك إلى الله -جل وعلا- وأن الجائز أن يقول: لولا الله، ثم فلان.
قال: وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال من حلف بغير الله، فقد كفر، أو أشرك رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم.
من حلف بغير الله يعني: عقد اليمين بغير الله -جل وعلا- فقد كفر، أو أشرك، واليمين هي تأكيد الكلام بمعظم به بين المتكلم والمخاطب، يؤكد الكلام بمعظم به بأحد حروف القسم الثلاثة: الواو، أو الباء، أو التاء فاليمين، أو الحلف يكون بتأكيد الكلام بمعظم به بالواو، أو بالباء، أو بالتاء، والواجب ألا يؤكد الكلام إلا بالله -جل وعلا-؛ لأن المعظم على الحقيقة هو الله -جل وعلا- وأما البشر، فليسوا بمعظمين بحيث يحلف بهم، وإنما ربما عظموا بشيء يناسب ذاتهم، تعظيم البشر اللائق.
أما التعظيم الذي يصل إلى حد أن يحلف به، فهذا إنما هو لله -جل وعلا- فإذا الواجب ألا يؤكد الكلام إلا بالله -جل وعلا- إذا أراد الحلف، إذا أراد أن يكون حالفا، فليحلف بالله، فليؤكد الكلام بالله -جل وعلا- باستخدام أحد الأحرف الثلاثة: الواو، أو الباء، أو التاء، وأما إذا استخدم غير هذه الأحرف كلفظ، في ونحو ذلك، فإنه لا يعد حلفا إلا إن كان في قلبه أنه يمين، ولكنه أخطأ التعبير، فالعبرة بما في النفس من المعاني، وأما ما في اللفظ، فإنه في هذا المقام يئول إلى ما في القلب.
لهذا قال هنا: من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك لماذا كفر، أو أشرك؟ لأنه عظم هذا المخلوق كتعظيم الله -جل وعلا- في الحلف به، وكفره وشركه شرك أصغر، وقد يصل إلى أن يشرك بالحلف، شركا أكبر إذا عظم المحلوف به كتعظيم الله -جل وعلا- في العبادة، فإذا صار حقيقة الحلف بغير الله أنه تعظيم لذلك المحلوف به في الحلف، فإن انضاف إلى ذلك أن المحلوف به معظم في العبادة، صار شركا أكبر، كحلف الذين يعبدون الأوثان بأوثانهم، فإنه شرك أكبر؛ لأنه يعظم ذلك الوثن، أو ذلك القبر، أو تلك البقعة، أو ذلك المشهد، أو ذلك الولي يعظمه كتعظيم الله في العبادة.
فيكون حلفه حلفا بمعظم به في العبادة، فإذا صار هنا الشرك الأصغر حاصل بمجرد الحلف بغير الله، فكل من حلف بغير الله، فهو مشرك.
الشرك الأصغر قد يصل في بعض الأحوال إلى أن يكون مشركا الشرك الأكبر، إذا كان يعبد هذا الذي حلف به، وهناك يمين بغير الله في اللفظ، فهذه -أيضا- شرك، ولو لم يعقد القلب اليمين كمن يكون دائما على لسانه استعمال الحلف بالنبي، أو بالكعبة، أو بالأمانة، أو بولي، ونحو ذلك، وهو لا يريد حقيقة اليمين، وإنما يجرى على لسانه مجرى اللغو، فهذا -أيضا- شرك؛ لأنه تعظيم لغير الله -جل وعلا-.
قال: وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا. هذا لأجل عظم الحلف بغير الله -جل وعلا- وأن الحلف بغير الله شرك، وأما الكذب، فإنه كبيرة والشرك الأصغر هذا أعظم من الكبائر؛ فلهذا استحب أن يكذب مع التوحيد، وألا يصدق مع الشرك؛ لأن حسنة التوحيد أعظم من سيئة الكذب، ولأن سيئة الشرك أشنع من سيئة الكذب، قال: وعن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله، ثم شاء فلان رواه أبو داود بسند صحيح.
هذا من جهة الإرشاد إلى ما ينبغي أن يقال، فلا تجعل مشيئة العبد مقارنة مشتركة مع مشيئة الله، بل الواجب أن ينزه العبد لفظه حتى يعظم الله -جل وعلا- والقلب المعظم لله -جل وعلا- لا يمكن أن يستعمل لفظا فيه جعل لمخلوق في مرتبة الله -جل وعلا- في المشيئة، أو في الحلف، أو في الصفات، ونحو ذلك.
لهذا قال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان وهذا النهي للتحريم؛ لأن هذا التشريك في المشيئة هذا شرك أصغر بالله -جل وعلا- قال: ولكن قولوا ما شاء الله، ثم شاء فلان لأن "ثم" تفيد التراخي في المشيئة، وهذا؛ لأن مشيئة العبد تبع لمشيئة الله -جل وعلا- قال -تعالى-: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فمشيئة العبد ناقصة، ومشيئة الله كاملة.
قال: وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره: أعوذ بالله وبك، أعوذ بالله وبك. لأن الواو تقتضي التشريك في الاستعاذة والاستعاذة كما ذكرنا لها جهتان: جهة ظاهرة وجهة باطنة، أما الجهة الباطنة، وهي الالتجاء والاعتصام، والرغب والرهب، وإقبال القلب على المستعاذ به، فهذا لا تصلح إلا لله، والاعتماد في الاستعاذة على المخلوق فيما أقدره الله عليه هذا جائز؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق ظاهرة فيما أقدره الله عليه ظاهرا جائز؛ لهذا كان يكره أن يقول أعوذ بالله وبك والكراهة في استعمال السلف، يراد منها غالبا المحرم، وقد ترد لغير المحرم، ولكن يستعملونها فيما لا نص فيه، ومجيء الكراهة بمعنى التحريم في القرآن في قوله -تعالى- لما ذكر الكبائر في سورة الإسراء: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا وفي القراءة الأخرى: " كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها" مكروها: أي محرما التحريم الشديد.
قال: ويجوز أن يقول: بالله، ثم بك لما فيها من التراخي قال: ويقول: لولا الله، ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان. نعم