كان يروح جيئة وذهاباً كالديك المزهو بريشه أمام غرفة الولادة ، وعلى رأسه طاقية صغيرة ، و كان سرواله السكري العريض الذي لا يعكس حال صدره يرفرف على جسده ، وكان هناك جيب واسع مطرز الفم على جانب السروال تدخل إليه يد تحسين باشا لتخرج السيجارة تلو السيجارة ، وفجأة يسمع صراخ المولود ، يضع يديه على الباب بقــوة ، ليسمـــــــع الخــــــبر " الفاجعة " : مبروك بنت مثل القمر ما شاء الله ، الله " يخليها " لك ولأمها ويجعلها قرة عين لكما ، يمسك السيجارة ويدوسها تحت قدميه ، ويدير ظهره دون أن تنبس شفتاه بكلمة ، يذهب إلى المقهى ، يطلب " الأرغيلة " ، ويلعب الورق مع فتيان قد هربوا من مدارسهم، ويطلب لهم القهوة ، يحاول أن يضحك ويقهقه و في مخيلته صورة تلك الأنثى التي أتته وهو رجل الرجال ، كيف يحدث ذلك ؟ ، لا يمكن هذا !! ، إنه حلم فظيع لا بل كابوس ، مــاذا أفعل ؟ ، أنا أريد رجلاً يحفظ اسم " العائلة " .
يعود إلى المنزل وقد بدأت خيوط الفجر الأولى تغزل ثياب الصباح ، يدخل غرفة نوم باردة غرّدت بها أصوات مولودة تلتقط الدفء من صدر أمها ، يرمي نفسه على السرير مديراً ظهره لشريكة عمره وينام ، تحاول المسكينة أن تلطف الأجواء، و لكن الصفعة تسبق بيانها ، وعندما تبكي الصغيرة يصرخ بأمها آمراً إياها بالخروج مع طفلتها من الغرفة لأنه يريد أن يستريح وينام .
تتوسل الأم البائسة إليه أن يرحمها وطفلتها من عذاب لا ذنب لهما فيه ، ولكنه يصرُّ على صوابه الذي لا يناقش ، وتخرج ريحانة الحياة متدثرة بغطاء ممزق وجسم الصغيرة الضعيف ملتصق بها ، وتهب رياح الشمال الثلجية القارسة تلفح الجسدين الهزيلين ناخرة العظام .
يراها الجد العائد من صلاة الفجر ، ويسألها : ماذا هنالك يا ابنتي ؟ ، الجو بارد ، ادخلي ، حرام عليك يا بنت الناس من أجل الطفلة ، وتأبى عليها عزتها أن تصرِّح بالحقيقة ، وتجيب : لقد ضاق نَفَسي في الغرفة والطفلة ما تزال ترضع ، فخرجت قليلاً استنشق الهواء ، ويقول الجد : هيا ادخلي ، فأنت حديثة الولادة والمولودة ضعيفة ، وتدخل على مهل خشية أن يسمع سلطان الزمان خطواتها ، وتنام وابنتها بهدوء .
لقد كان للرياح الباردة تأثيرها الظالم بعد بضعة أيام ، حيث كانت الطفلة ترقد في غرفة العناية المركَّزة بسبب التهاب في صدرها ، والأب تمنعه كرامته أن يذهب ويستفسر عنها ، وفي يوم تماثلها للشفاء أخبره الطبيب بأن لديها خلع ولادي في مفصل الورك وأن عليه أن يتابع معالجتها ، تذكّر الأب على الفور ابنة الجيران التي تعرج في مشيتها ، تذكّر سخريته منها ، تذكّر كم كان يكره منظرها، تذكّر … تذكّر ..وأدار ظهره كعادته ومشى .
حاول أن يستمع لبعض ما يقوله مقدم أحد البرامج الصحية في التلفزيون حول ذلك الخلع ، ولكنه لم يستطع أن يكمل ، لم يكن ليتحمل أن تكون عنده ابنة أنثى ومعاقة أيضاً ، أفهمه أحد الأقارب أن القضية بسيطة ولا تعتبر خطراً إذا عولجت ، ولكن صوراً سوداء في مخيلته ترفض أن تتنحى ، تتابع الأم قدرها راضية بصبر غير مصطنع مع ابنتها ، و تعالجها عند طبيب من غير زمان .
كان يوماً من أواخر أيام الشتاء عندما أخبروها أن زوجها في المستشفى بسبب كسر في ساقه ، لقد كان تائهاً في أفكاره العمياء عندما صدمته سيارة صبي مراهق ، حملت ابنتها وأسرعت باكية إلى المستشفى لتجده راقداً على السرير والجبس على ساقه ، كانت له أكثر من خادمة ، دون أن يتوقف الخير المتدفق من صدرها لابنتها ، وبعد شهر يمشي بمساعدة عكازته ، ويأتي إليه عمه والد زوجته مع أسرته في زيارة من المدينة البعيدة ، لقد كان ذلك العم يعشق الهواء الطلق والأشجار ، ذهب الجميع إلى الحديقة ، وكان هناك أسرة سعيدة ومعها طفل معاق أعمى ، لقد كان الفرح يملأ وجوه جميع أفراد تلك الأسرة ، ويسمع تحسين باشا آذان العصر ، ويذهب مع العم الهــرِم إلى الصلاة ، يؤديها على كرسيه الخاص ، وبعد الصلاة كان هناك حديث حول الإعاقة ، ينتظر ، يسمع ، تتناثر الصور المختلفة في ذهنه ، يتذكّر ابنته ، ويقارن حاله مع ما يقوله الشيخ ، ومن ثم تختال أمامه صورة أسرة الأعمى السعيدة ، يستعيد ذكرياته التي شعر أنها مريرة الآن ، تدمع عيناه ، يبكي بسخاء ، يتذكّر زوجته وهي تساعده في قضاء حاجته ، ينهي الشيخ كلامه ، يهرول على عكازته مسرعاً والدموع على وجنتيه ، ينسى الدنيا ، يحاول أن يركض ما استطاع نحو زوجته وطفلته ذات الأشهر الستة ، ينظر إليها و هي تضحك مع أمها ، تضحك له ، يسرع نحوها ، ينسى العالم ، يحملها ، يقبَّلها ، تبكي الأم ، والجد يقول : ما شاء الله ، هكذا الآباء وإلا فلا .
يعود إلى المنزل وقد بدأت خيوط الفجر الأولى تغزل ثياب الصباح ، يدخل غرفة نوم باردة غرّدت بها أصوات مولودة تلتقط الدفء من صدر أمها ، يرمي نفسه على السرير مديراً ظهره لشريكة عمره وينام ، تحاول المسكينة أن تلطف الأجواء، و لكن الصفعة تسبق بيانها ، وعندما تبكي الصغيرة يصرخ بأمها آمراً إياها بالخروج مع طفلتها من الغرفة لأنه يريد أن يستريح وينام .
تتوسل الأم البائسة إليه أن يرحمها وطفلتها من عذاب لا ذنب لهما فيه ، ولكنه يصرُّ على صوابه الذي لا يناقش ، وتخرج ريحانة الحياة متدثرة بغطاء ممزق وجسم الصغيرة الضعيف ملتصق بها ، وتهب رياح الشمال الثلجية القارسة تلفح الجسدين الهزيلين ناخرة العظام .
يراها الجد العائد من صلاة الفجر ، ويسألها : ماذا هنالك يا ابنتي ؟ ، الجو بارد ، ادخلي ، حرام عليك يا بنت الناس من أجل الطفلة ، وتأبى عليها عزتها أن تصرِّح بالحقيقة ، وتجيب : لقد ضاق نَفَسي في الغرفة والطفلة ما تزال ترضع ، فخرجت قليلاً استنشق الهواء ، ويقول الجد : هيا ادخلي ، فأنت حديثة الولادة والمولودة ضعيفة ، وتدخل على مهل خشية أن يسمع سلطان الزمان خطواتها ، وتنام وابنتها بهدوء .
لقد كان للرياح الباردة تأثيرها الظالم بعد بضعة أيام ، حيث كانت الطفلة ترقد في غرفة العناية المركَّزة بسبب التهاب في صدرها ، والأب تمنعه كرامته أن يذهب ويستفسر عنها ، وفي يوم تماثلها للشفاء أخبره الطبيب بأن لديها خلع ولادي في مفصل الورك وأن عليه أن يتابع معالجتها ، تذكّر الأب على الفور ابنة الجيران التي تعرج في مشيتها ، تذكّر سخريته منها ، تذكّر كم كان يكره منظرها، تذكّر … تذكّر ..وأدار ظهره كعادته ومشى .
حاول أن يستمع لبعض ما يقوله مقدم أحد البرامج الصحية في التلفزيون حول ذلك الخلع ، ولكنه لم يستطع أن يكمل ، لم يكن ليتحمل أن تكون عنده ابنة أنثى ومعاقة أيضاً ، أفهمه أحد الأقارب أن القضية بسيطة ولا تعتبر خطراً إذا عولجت ، ولكن صوراً سوداء في مخيلته ترفض أن تتنحى ، تتابع الأم قدرها راضية بصبر غير مصطنع مع ابنتها ، و تعالجها عند طبيب من غير زمان .
كان يوماً من أواخر أيام الشتاء عندما أخبروها أن زوجها في المستشفى بسبب كسر في ساقه ، لقد كان تائهاً في أفكاره العمياء عندما صدمته سيارة صبي مراهق ، حملت ابنتها وأسرعت باكية إلى المستشفى لتجده راقداً على السرير والجبس على ساقه ، كانت له أكثر من خادمة ، دون أن يتوقف الخير المتدفق من صدرها لابنتها ، وبعد شهر يمشي بمساعدة عكازته ، ويأتي إليه عمه والد زوجته مع أسرته في زيارة من المدينة البعيدة ، لقد كان ذلك العم يعشق الهواء الطلق والأشجار ، ذهب الجميع إلى الحديقة ، وكان هناك أسرة سعيدة ومعها طفل معاق أعمى ، لقد كان الفرح يملأ وجوه جميع أفراد تلك الأسرة ، ويسمع تحسين باشا آذان العصر ، ويذهب مع العم الهــرِم إلى الصلاة ، يؤديها على كرسيه الخاص ، وبعد الصلاة كان هناك حديث حول الإعاقة ، ينتظر ، يسمع ، تتناثر الصور المختلفة في ذهنه ، يتذكّر ابنته ، ويقارن حاله مع ما يقوله الشيخ ، ومن ثم تختال أمامه صورة أسرة الأعمى السعيدة ، يستعيد ذكرياته التي شعر أنها مريرة الآن ، تدمع عيناه ، يبكي بسخاء ، يتذكّر زوجته وهي تساعده في قضاء حاجته ، ينهي الشيخ كلامه ، يهرول على عكازته مسرعاً والدموع على وجنتيه ، ينسى الدنيا ، يحاول أن يركض ما استطاع نحو زوجته وطفلته ذات الأشهر الستة ، ينظر إليها و هي تضحك مع أمها ، تضحك له ، يسرع نحوها ، ينسى العالم ، يحملها ، يقبَّلها ، تبكي الأم ، والجد يقول : ما شاء الله ، هكذا الآباء وإلا فلا .
وتتجمع غيوم ربيعية في كبد السماء ، وينهمر مطر يغسل الطبيعة والأشجار ، وتفوح رائحة منعشة من أرض ليست جدباء .
بقلم د.عبدالمطلب بن أحمد السح
حكاية جميلة .. ما أدري هي واقعية أو من وحي الخيال …
ماأنكر إني تأثرت بها ..
بالذات لما قرأت هذا المقطع ..
وتخرج ريحانة الحياة متدثرة بغطاء ممزق وجسم الصغيرة الضعيف ملتصق بها ، وتهب رياح الشمال الثلجية القارسة تلفح الجسدين الهزيلين ناخرة العظام .
تخيلت الوضع … بالذات إن المرأة نفساء و الطفلة صغيرة …يعني الإثنين سهل يمرضن …
غالبية قصصي لها اساس من الواقع، و لكن السرد و البنيان القصصي يقتضي بعض التصرف.
شكرا لمروركم الكريم اختي أم هوازن.
شكرا لمروركم الكريم اختي أم هوازن.
السلام عليكم
د . عبدالمطلب قصة معبرة جدا
لاكن بالاخير هكذا الاباء و الا …. على قولة الجد
بس في شي لاحظته وانا اقراها
"" ثلج – برد "" الخ ..
المكان يختلف عن بلادنا
لاكن لا يمنع ان المشاعر و الظروف متشابهة تعكس حقيقة في بعض الاحيان .
شكرا د.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصه جميله جدا و معبره ايضا
ماشالله عليك يا دكتور دائما تتحفنا بمواضيع مفيده وقصص جميله ذات مغزي مفيد
قصه جميله جدا و معبره ايضا
ماشالله عليك يا دكتور دائما تتحفنا بمواضيع مفيده وقصص جميله ذات مغزي مفيد
أختي الصامتة للابد
شكرا لطيب كلماتكم.
بالنسبة للبرد و الثلج لا تنسي أنني من سوريا، و رغم انني من عشاق الثلج إلا أنه قد يكون مؤلما كما في هذه القصة.
شكرا لطيب كلماتكم.
بالنسبة للبرد و الثلج لا تنسي أنني من سوريا، و رغم انني من عشاق الثلج إلا أنه قد يكون مؤلما كما في هذه القصة.
أختي ام جاسم
سكرا لجميل كلماتكم
وفقنا الله و اياكم لما يحب و يرضى.